الغريفي: الإصرار على اتهام الآخرين عبر سوء الظن يؤجِّج الفِتن والخلافاتِ والصِّراعات
القفول - محرر الشئون المحلية
أكد عالم الدين السيد عبدالله الغريفي الحاجة الى حسن الظن، بين الناس، والابتعاد عن الشائعات، والاتهامات التي أزهقت أرواحاً، وخرَّبت بيوتاً، وهتكت أعراضاً، وأربكت شعوباً، وأزَّمت أوطاناً، مشدداً على أنَّ الإصرار على تكريس الاتِّهام لهذا الخطاب، أو ذاك الخطاب - دينيًّا كان، أم سياسيًّا، أم ثقافيًّا - اعتمادًا على (رؤية ملتبسة) - إنْ أحسنا الظَّنَّ - فهذا الإصرار له تداعياتٌ خطيرة على الوحدة، والمحبَّة، والتَّسامح، كما يؤزِّم العلاقات بين الأنظمةِ والشُّعوب، ويؤجِّج الفِتن، والخلافاتِ، والصِّراعات، وربَّما قاد إلى مآلاتٍ مُدمِّرة، يُنتجها عنفٌ، أو تطرُّفٌ أسَّسَهُ اتِّهامٌ ظالم هنا، أو اتِّهام ظالم هناك.
وقال الغريفي إنه شخصيّاً ليس فوقَ النَّقدِ والمحاسبة، مؤكداً «بكلِّ حبٍّ أُرَحبُّ بأيِّ نَقْدٍ، فلستُ فوقَ النَّقَدِ والمحاسبةِ، بشرط أنْ تكونَ غاياتُ النَّقدِ نزيهةً وشريفةً، والمعاييرُ علميَّةً، والأدواتُ نظيفةً».
جاء ذالك في حديث الجمعة الذي ألقاه مساء الخميس (4 أغسطس / آب 2016) بمسجد الإمام الصادق (ع) في القفول، بالمنامة.
وأضاف «هناك مَنْ ينتقد بدافع التَّشهير، والإسقاط، والتَّشويه والمعاداة، هذه غايات غير شريفة، وغير نزيهة. وهناك مَنْ ينتقد بهدف التَّقويم، والتَّصحيح، والبحث عن الحقيقة، هذه غايات نزيهة، وشريفة».
وبشأن معايير النَّقد، قال: «قد تكون أهواءً ومزاجاتٍ، وعواطف وانفعالات، هذه معايير ساقطة، ومرفوضة وغير علميَّة. وقد تكون المعايير خاضعة للعقل، والرُّشد، والضَّوابط العلميَّة، فهذه المعايير هي التي تؤسِّس لإنتاج القناعات الصَّائبة، والأفكار الصَّحيحة. وأمَّا الأدوات، فاللُّغة المستخدمة في النَّقد، فالمطلوب ألا تكون الكلمات والألفاظ سيِّئة، ومبتذلَة، بل يجب أنْ تكونَ مهذَّبةً، وراقيةً، ونظيفةً. هكذا علَّمنا القرآنُ الكريم حينما نجادلُ، وحينما نتحدَّثُ مع الآخر الَّذي نختلفُ معه ثقافيّاً، دينيّاً، مذهبيّاً، سياسيّاً، اجتماعيّاً».
وقال: إن الكلمة التي «تُطلقُ في الخطابِ، في الحوارِ، في النَّقدِ يجب أنْ تكون نظيفةً، بل في أرقى مستوياتِ النَّظافة والجمال والتَّهذيب... وجميلٌ جدّاً أنْ تتوافر أجواءٌ مفتوحةٌ للرَّأي والرَّأي الآخر، فإنَّ ذلك مظهرٌ حضاريٌّ راقٍ، فمن خلال الحوارِ، والنَّقدِ، ومحاسبة الأفكار يتمُّ إغناءُ البحثِ، وإثراءُ الفكرِ، وإنماءُ الثِّقةِ، والمحبَّةِ، والتَّسامح، ما دامتْ الكلمةُ لا يحرِّكها هوًى، ومزاجٌ، وانفعالٌ، وأغراضٌ نفعيَّة، وإنَّما يُحرِّكها عقلٌ، وشرعٌ، وقِيَمٌ، ومُثُلٌ».
وعقَّب بأن «الخطر كلّ الخطرِ حينما يُسجنُ الرَّأي المخالف دينيًّا، أو مذهبيًّا، أو ثقافيًّا، أو سياسيًّا، فإنَّ الرَّأي المسجونَ ربَّما عبَّر عن نفسِهِ بأدواتٍ خاطِئةٍ، أو ملتويةٍ، أو متشنِّجةٍ، أو ناقمةٍ، وربَّما أنتج قمعُ الرَّأي والكلمةِ نزوعًا نحو العنفِ والتَّمرُّد والتَّطرُّف، فاسمحوا للرَّأي الآخر أنْ يعبِّر عن نفسه بأساليب حضاريَّة».
ولفت إلى أن هناك من انتقده بأنه زاوج بين الدين والسياسة في خطابه، لكن هذا الكلام عليه بعضُ ملاحظات، أوردها كما يأتي:
الملاحظة الأولى: فرق بين القَدَاسة والاحترام الدِّينيِّ، هناك فارقٌ بين (القداسة)، و(احترام المقام الدِّينيِّ للعلماء). لا قداسة في المنظور الدِّينيِّ إلَّا لِلهِ سبحانه، ولأنبيائِهِ، وأوصياء أنبيائِه (عليهم السَّلام). وما عداهم من علماء أجلَّاء أبرار، ومن رجالٍ صلحاءَ أخيار، فلهم مقاماتٌ دينيَّةٌ كبيرةٌ جدًّا، لكنَّ هذه المقامات لا تصل إلى مستوى (القداسة). وربَّما تسامحًا وتساهلاً يُطلق هذا العنوان على العلماء والرِّجال الصَّالحين، وحينما نخلع القداسة لا يعني أنَّه يجوز العبث بالمقامات الدِّينيَّة، والسِّياسيَّة ظُلمًا، وعُدوانًا، وبُهتانًا.
الملاحظة الثَّانية: لا أحد فوق النَّقد عدا المعصوم، مَنْ قال إنَّ عالمَ الدِّينِ مُحصَّنٌ ضدَّ النَّقدِ والمحاسبة، فإذا استثنينا المعصوم – نبيًّا، أو إمامًا-، فلا يُوجد أحدٌ فوقَ النَّقدِ والمحاسبة، كائنًا مَنْ كان. فخطاب عالم الدِّين - كغيره - ليس معصومًا، فربَّما أصابَ، وربَّما أخطأ!
هذا الخطاب خاضع للنَّقد، والمناقشة، وخاضع للمحاسبة العلميَّة.
وقال: «كلُّ مَنْ يتوافر على كفاءةِ النَّقد، ومؤهَّلاتِه، وشروطِهِ بإمكانه أنْ يمارسَ هذا النَّقد، ولا يحقُّ لأحد أنْ يُصادر حقَّهُ في النَّقد».
وأضاف «فمِن حقِّ الدَّارسِ للفقهِ والشَّريعة أنْ ينتقد الخطاب الدِّينيَّ في مجالاتِ الفقهِ، والشَّريعة. ومن حقِّ مَنْ يملك كفاءةَ الفكرِ والثَّقافةِ أنْ يمارسَ نقدًا للخطاب الدِّينيِّ في مجالاتِ الفكرِ والثَّقافةِ. ومن حقِّ العارف بشئون الأدبِ وعلوم اللغةِ أنْ يمارسَ نقدًا للخطاب الدِّينيِّ في مجالاتِ اللُّغةِ والأدبِ. ومِن حقِّ البصير بالشَّأن السِّياسيِّ أنْ يمارس نقدًا للخطاب الدِّينيِّ في المجالات السَّياسيَّة. ومِن حقِّ مَنْ يملك ثقافة تربويَّة، أو اجتماعيَّة، أو اقتصاديَّة أنْ يمارسَ نقدًا للخطاب الدِّينيِّ في هذه المجالات».
وبين أن «الوظيفة الأساسَ لعالمِ الدِّينِ هي أنْ يَطرحَ رأي الدِّينِ في كلِّ المساحاتِ التي يكونُ للدِّينِ فيها رأيٌ، سواءً أكانت عقيديَّة، أم فكريَّة، أم عباديَّة، أم أخلاقيَّة، أم تربويَّة، أم اجتماعيَّة، أم اقتصاديَّة، أم سياسيَّة، وأمَّا فيما هي المجالات التَّخصصيَّة، فاقتحامها في حاجة إلى امتلاك كفاءاتِها، وخبراتِها، وقُدُراتِها، فمتى لم تتوافر لعالم الدِّين فلا يحقُّ له أنْ يشتغل، أو أنْ ينشغل بها، وأنْ يتركها لفرسانها إلَّا أنْ يكون هو أيضًا من فرسانها، ففي علماء الدِّين فرسان سياسة، واجتماع، وثقافة، وفكر، وتربية».
واضاف «أمَّا المصاهرةُ بين الدِّين والسِّياسة والتي أكَّد النَّاقدُ الموقَّر رفضها، فهي مسألةٌ خاضعةٌ للدَّليل الشَّرعيِّ، فمتى وجد دليلٌ، فلا خيار إلَّا أنْ نلتزم به. حاولت أنْ أبحث عن نصٍّ من (كتاب)، أو (سُنَّة)، أو أنْ أسترشد (بعقل)، أو (إجماع) في هذا المجالِ فما وجَدَتُّ!! ولن أتردَّد إطلاقًا حينما أعثر على ذلك في رفض هذه المزاوجة والمصاهرة».
وأشار الغريفي إلى أن «وظائف الخطاب تتركز في «الدَّعوة إلى الخير»، «الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر»، «الإنذار» بحسب «... فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة: 122)، «الدَّعوة إلى الله تعالى»، «التَّبليغ» على نهج «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ...» (الأحزاب: 39)».
وبين «حينما نقرأ هذه الآيات وغيرِها في القرآن الكريم، وكذلك الرِّوايات فهي شاملةٌ بعموماتِها، وإطلاقاتها جميع مساحاتِ الحياة العقيديَّة، والفكريَّة، والرُّوحيَّة، والعباديَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة».
واعتبر أن «خطاب من أجل التَّوازن والتَّرشيد... حينما يُعطى للخطاب الدِّينيِّ الحقَّ في أنْ يقول كلمةً في الشَّأنِ العامِّ لا يعني أنْ ينجرَّ هذا الخطابُ إلى معتركاتِ السِّياسة، وصراعاتِها، وتجاذباتِها، وصداماتِها، وتوتُّراتِها، ومواجهاتِها. ولا يَعني أنْ يَسْقُطَ هذا الخطابُ في مستنقعاتِ السِّياسةِ، وتلوُّثاتِها، ومُوبقاتِها، ونزواتِها، وإشكالاتِها، وتناقضاتِها، وأخطائها، ومنزلقاتِها»، لافتاً إلى أن المطلوب من مثل هذا الخطاب هو «أنْ يُرشِّدَ السِّياسةَ، أنْ يُهذِّبها، أنْ يُنظِّفَها... أنْ يمارسَ تثقيفًا، توجيهًا، تربيةً. أنْ يكون داعية إصلاحٍ، وعدلٍ، ومحبَّةٍ، وتسامحٍ، وتآلفٍ، وتقاربٍ.... أنْ يكون أداة أمنٍ وأمانٍ وخير وسداد... فمِن أهدافِ الدِّين الدَّعوةُ إلى المحبَّة، فحينما يكونُ الخطابُ داعيةَ كراهةٍ، فلا يُسمَّى خطابَ دين... مِن أهدافِ الدِّين الدَّعوةُ إلى التَّسامحِ، فحينما يكونُ الخطابُ داعيةَ تعصُّبٍ، فلا يُسمَّى خطابَ دينٍ... من أهدافِ الدِّين الدَّعوةُ إلى الوحدةِ والتَّآلفِ، فحينما يكون الخطابُ داعيةَ فرقةٍ وتخالفٍ، فلا يُسمَّى خطابَ دين... مِن أهدافِ الدِّين الدَّعوةُ إلى الصَّلاحِ والإصلاح، فحينما يكونُ الخطابُ داعية فسادٍ وإفسادٍ، فلا يُسمَّى خطابَ دينٍ... من أهدافِ الدِّين معالجة الأزمات، فحينما يكون الخطابُ داعيةَ تأزيم، فلا يسمَّى خطابَ دينٍ... من أهدافِ الدِّين نبذُ التَّطرُّفِ والعنفِ والإرهابِ، فحينما يكونُ الخطابُ نقيضَ ذلك، فلا يُسمَّى خطابَ دينٍ».
وقال اننا بحاجة الى حسن الظن و«ما أحوجَ السَّاحةَ المزدحمةَ بالأزماتِ والتَّوتُّراتِ والاحتقاناتِ إلى درجةٍ عاليةٍ جدًّا من حُسن الظَّنِّ تجاه الآخر، وعدمِ التَّسرُّعِ في التُّهمةِ، وسُوءِ الظَّنِ، فـجاء في القرآن الكريم قولُ الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...» (الحجرات: 12). وفي الكلمةِ عن النَّبيِّ (ص): «اطلب لأخيك عُذرًا، فإنْ لم تجد له عُذْرًا فالتمس له عُذْرًا» (الخصال: ص 622). وفي الكلمة عن الإمام عليٍّ (ع): «سوءُ الظَّنِّ يُفسدُ الأمورَ، ويبعثُ على الشُّرور» (عيون الحكم والمواعظ: ص283)»، معقبا «فما أحوج أوطاننا إلى هذه (القِيم الرَّاقية) في عصر ازدحمت (الشائعات، والاتهامات) والتي أزهقت أرواحًا، وخرَّبت بيوتًا، وهتكت أعراضًا، وأربكت شعوبًا، وأزَّمت أوطانًا! وحينما نتحدَّث عن (حُسن الظَّنِّ) لا يعني أنْ يُترك الواقع لكلِّ (الاختراقات)، فالحذر مطلوبٌ وبدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا، ولكنَّ الكارثةَ حينما تختلطُ الأوراق، وترتبك المعايير، وتتعدَّد المكاييل».
وقال: ان «القراءات المُجتزأَة ظالمة وغير أمينة ... إنَّ القراءاتِ التي تجتزأ (العبارات) من سياقاتِها، وتُقمِّصُها معانيَ أخرى، وتضخِّم تلك المعاني تعتبر قراءاتٍ ظالمةً وغيرَ أمينة. وهكذا تظهر هذه القراءاتُ (الخطابَ) مُحرِّضًا، مُؤزّمًا، مُنافقًا، مُتطرِّفًا، خَائنًا، سيِّئًا، طائفيًّا، عدوانيًّا. وتدفنُ ما فيه من كلماتِ المحبَّة، والتَّسامح، والتَّهدئة، والدَّعوة إلى المصالحة، والحوار، والتَّقارب. فلماذا تُدفَنُ هذه المعاني بهدف التَّأكيد على معطياتٍ نقيضةٍ، تمَّ استنتاجُها بطريقة مُلْتَبِسةٍ مزوَّرةٍ، ظالمة. لا ندَّعي العصمة لأيِّ خطاب دينيٍّ، ولكن لا يمكن أنْ ينقلب هذا الخطابُ على أهداف الدِّين، وإلَّا لم يكنْ خطابًا دينيًّا. ومهما استطاعَ الخطابُ أنْ يتلبَّسَ عنوانَ الدِّين زورًا وكَذِبًا، فإنَّه لا يمكن أنْ يصمد أمام جمهوره الَّذين يؤمنون بالدِّين، وقِيمِه، وأحكامِهِ».