قصة قصيرة...الضرير
قصة قصيرة - قريب الله برير محمد الحسن (السودان)
لقد أصبت بالعمى منذ سن الثامنة، لم تفلح محاولات الأطباء في شفائي
فنشأت على هذه الحال حتى تزوجت.
وقبل أن أهم بالخروج من بيتي لبعض شأني؛ كنت دائمًا أرتدي نظارتي السوداء التي تخفف حدة أشعة الشمس عني، وأتوكأ على عكازي الذي يعينني على تحسس معالم الطريق.
جاري الطيب يأتي لتفقد أحوالي دائمًا، زوجتي تقدم له القهوة، وأحيانًا العصير.
كنت أكنّ له جزيل الامتنان على صنيعه هذا، وأقدر لزوجتي حرصها الدائم على تبييض وجهي أمام ضيوفي.
ندمائي على المقهى يضحكون فرحاً وقت قدومي، كأنهم يحتفون بعزيز عاد بعد طول غياب، فأُكْبِر فيهم حبهم لي.
القصّاب الذي يقبع محله بالقرب من بيتي، كان يلهج بالبشر والترحاب حالما يراني، ويقدمني على جميع زبائنه، فيزيد إحترامي وتقديري له.
ذات يوم قدم قريب لي، وأخبرني بأن هنالك طبيب عيون ماهرًا يريد أن يعرضني عليه.
ذهبتُ دون أن أخبر زوجتي بمقصدي، قلت لها كاذباً: أنا وقريبي في زيارة لصديق قديم. كتب الله لي الشفاء على يديّ ذاك الطبيب.
ولما عدت إلى البيت، لم أخبر أحدًا بشفائي، وأدّعيت العمى، ليس استوهابًا للتعاطف، لكن أردت أن أرى كيف تسير الحياة كما بالسابق دون أن ألفت انتباه من حولي إلى وجودي.
ارتديت نظارتي السوداء، وأخذت عكازي كعادتي.
وها أنا أرى... ويا ليتني لم أر؛ لقد رأيت عجبًا !
رأيت أن جارنا الذي كنت أحسبه طيبًا لم يكن طيبًا أبدًا.
ولم يكن يأتي إلى بيتي لتفقد أحوالي كما ظننت، بل يأتي لمغازلة زوجتي الجميلة بإيماءاته وملاحقتها بعينيه الثاقبتين.
وكانت حرمي المصون تشاركه الإثم بتبادل النظرات والابتسام.
ندمائي على المقهى ما كانوا يضحكون فرحاً بلقائي.. بل كانوا يضحكون تهكماً وسخريةً من خطواتي المتعثرة في السير.
القصّاب لم يكن يلهج بالبشر والترحاب بكلماته اللطيفة مجاملةً - أو حتى إشفاقًا - بل كان يستغل حالة الضرر التي بي ليغشني في اللحم.
هكذا تَجَلَّت لي الحقيقة المرة، فتمنيت في تلك اللحظة لو أنني لم أبصر.
لم أفضل العمى على الإبصار لشيء سوى لأحتفظ لأولئك الذين أحببتهم وخذلوني بصورة جميلة.
عوضًا عن هذه الصورة المشروخة التي أرتسمت في مخيّلتي حالما فتحت عينيّ مبصراً.