قصة قصيرة... انتفاضة تتجدّد أشكالها
قصة قصيرة - عباس علي رضي
تنتفضُ وحيداً من شدَّة التّفكير فيما سيحلُّ بك غداً، لا رفيق لك سوى الغربة في هذا الليل الطويل، وكلما حاولت النّوم هاجمك الجاثوم مرةً أخرى. ها أنت تخرج من الفندق المطلّ على السّاحل لا تدري إلى أين تسعى بك رجلاك النحيفتان، تحمل حقيبةً سوداء فيها أثمن ما احتفظت به لمثل هذه الأيّام العصيبة. تستنشق أنفاساً وتزفرها من فمك بسرعة وأنت تنتفض من البرد، ثمّ تواصل السّير في بلاد الهجرة التّي وفدت عليها منذ أيام؛ وما يزال المطر يهطل بغزارةٍ في الطّريق المتعرّج الذي تمشي فيه ببطء، وتخاف الانزلاق الذي أصبح عادتك.
تقف برهةً تلتقط أنفاسك عند منعطف الطريق بجانب عمود الإنارة الخافت نوره، وتنظر يميناً لمستنقع الوحل الذي هو أشبه بالمستنقع الذي لعبت فيه أيام طفولتك، لطالما رميته بالحجارة فتتشكل فيه دوائر راسمةً البسمة على شفتيك. لقد فارقتك الابتسامة منذ زمن طويل، وبقيت مشاعرك تتذبذب اضطراباً وتناجيك سراً: ألم تكتفِ من هذا الوحل! عندها بدأت تركض بلا مبالاة وكأنّك تريد أن تنتفض على ما أنت فيه، وتبدأ مغامرةً جديدةً من مغامراتك المتهورة إلى أن وقعت على وجهك البائس من الحجارة الملقاة على الطريق، فغضبت وقمت تقذف بعضاً منها نحو حاويات القمامة الموجودة هناك، ومن بعيد تلمح ظلالاً تتحرك.
وتصغي سمعك لنبرات غريبة، وتمعن النظر جيداً لأيادٍ مرفوعة تشير لك بالتّوقف، ويستقرّ شعاع الليزر على حقيبتك التي حيثما وضعتها تحرّك الشّعاع معها، فارتجف قلبك خوفاً، والعرق يفيض من جبينك. وفي تلك اللحظة عينها بدأت تلعن حظك قائلاً: هل أصاب أحدهم الحجر؟ أم أنّ لحيتي الكثّة أصابتهم بالخوف، أم أنّ ملابسي العربية هي السبب! كلابهم تنبح عليك بجنون، حينها تزداد يقيناً بأنّ المشهد قد بدأ للتّو، وأنّ أي حركة منك ستحوّل الوضع إلى مشهد مطاردة أنت الخاسر فيه بلا ريب. يشير لك قائدهم المقنّع بأن تترك الحقيبة وتبتعد عنها، وتحدّث نفسك: هل يظنون بأنّها مملوءة بالمتفجرات؟ يا لتعاستي. لعلّ شكلي المضحك هو السبب.
بدأت تمسك حقيبتك بقوةٍ ويراودك شعور سيء بأنّك لن تراها بعد اليوم أبداً، بعدما احتفظت بها طوال الخمسة والأربعين عاماً التي عشتها في بلادك، ويزداد نباح الكلاب الغاضبة، وفجأةً تعدو الكلاب مسرعةً نحوك ولعابها يسيل، وتعضّ يد النّدم على الخروج في هذا الوقت النحس، وأنت تنظر للجند حيناً وللكلاب تارةً أخرى، وخاصة الكلب المقطوع ذيله، ذو الفرو الكاكي، الذي سبقهم جميعاً، ثمّ سمعت صوتاً من خلفك أصابك منه الرعب أكثر ممّا أنت فيه، فبدأت تصرخ بأعلى صوتك رافعاً حقيبتك للسّماء، فأدبر عنك مولّياً ذلك الكلب اللّعين، ونظرت للخلف لتجد قطاً ينتفض عند حاويات القمامة والكلاب تحاصره، الآن تدرك أنّ الوقت قد حان لتنتفض أنت أيضاً وتركض مستعجلاً نحو المجهول حاملاً معك حقيبتك العزيزة دون أن تكمل بقية المشهد الذي لازلت تحاول معرفة خاتمته.