الاشتباكات مع المقاتلين الأكراد تدمر موقعا أثريا في تركيا
ديار بكر - رويترز
عندما سجلت الأمم المتحدة الجدران الرومانية في مدينة ديار بكر التركية على قائمتها للتراث العالمي العام الماضي جاء ذلك تتويجا لجهود استمرت عشر سنوات لإعادة تأهيل منطقة مزقتها الحروب.
وخلال أسابيع انهار وقف لإطلاق النار مع المسلحين الأكراد في جنوب شرق تركيا مطلقا بعضا من أعنف القتال في الصراع الدائر منذ نحو 30 عاما مما أدى إلى تدمير مساحات من منطقة سور الأثرية في ديار بكر.
ويلقي ما آلت إليه آثار سور بظلاله على اجتماع لجنة التراث العالمي في اسطنبول هذا الأسبوع. وتتولى اللجنة إعداد قوائم بالمواقع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
وقالت نيفين سويوكايا التي ساهمت في وضع مسودة الطلب باعتبارها رئيسة مكتب الآثار بالمدينة "انتقلنا خلال عام من (الإدراج على قائمة) اليونسكو ... إلى دمار كامل وليس هناك فرصة للعودة."
وقتل مئات وشرد ألوف خلال عمليات أمنية في سور استمرت أحدثها ثلاثة أشهر متصلة حتى مارس آذار. وقصفت الدبابات شوارعها القديمة لإخراج المسلحين الذين حفروا الخنادق وزرعوا المتفجرات.
وقالت سويوكايا إن أكثر من 800 مبنى في المدينة التي يمتد تاريخها سبعة آلاف عام سويت بالأرض تماما. وأضافت أن الدمار أصبح غير قابل للعلاج عندما استخدمت الجرافات في نقل الركام وألقت به في نهر دجلة القريب.
وديار بكر هي الأشهر بين مدن ستة أقاليم ألحقت بها أضرار خلال العمليات. وتقول الحكومة إن إعادة بناء ستة آلاف مبنى دمرت سيتكلف مليار ليرة تركية (345 مليون دولار).
ويحمل الرئيس رجب طيب إردوغان المسلحين من حزب العمال الكردستاني مسؤولية هذا الدمار وتعهد بإنعاش المنطقة التي تسكنها أغلبية كردية بحملة تطوير عمراني. ويحذر منتقدون من أن شركات البناء قد تستفيد من ذلك أكثر من السكان المحليين.
وقال إردوغان بعد العمليات الأمنية في سور "لن نطهر الموقع فقط من الإرهابيين بل سنزيل من خلال التطوير العمراني الظروف التي سمحت لهم بالعمل."
* لا عودة
أودى القتال في العام الأخير مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني المطالبين بالحكم الذاتي بحياة الألوف. واستبعد إردوغان العودة إلى محادثات السلام حتى يتخلى حزب العمال الكردستاني عن السلاح. وتعتبر تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية.
ودفع القتال نحو 20 ألف شخص للفرار من ديارهم التي يتشككون في إمكانية عودتهم إليها مرة أخرى. ودعاهم وزير بالحكومة للعيش في مكان آخر.
أخذت بريتان اتيس (19 عاما) حقيبتها الدراسية فقط لتعود إلى مدرستها الثانوية في ديسمبر كانون الأول تاركة خلفها والديها وشقيقتين بالغتين في المنزل الذي ولدت فيه. كانوا يتصورون أن الحملة الأمنية ستستمر بضعة أيام فقط وبقوا لحراسة المنزل.
وقالت اتيس "بعد 50 يوما لم يكن لديهم ماء أو كهرباء وكانوا يرغبون في المغادرة لكن لم يكن هناك طريق مفتوح."
وقتلت أمها فاطمة (55 عاما) بالرصاص عندما خرجت من بيتها لتتوضأ للصلاة لتصبح واحدة من 400 مدني أو أكثر قتلوا في المنطقة. وسجن والدها وواحدة من شقيقتيها.
وتقول السلطات إن "الإرهابيين" فقط هم من بقوا في المنطقة بعد فرض حظر تجول وتقول إن المسلحين فجروا خطوط إمداد الكهرباء وبنى أساسية أخرى. وصادرت الدولة 6292 قطعة أرض أي نحو 80 بالمئة من مساحة سور في مارس آذار متعهدة بإعادة بنائها.
وصدر تسجيل فيديو في ابريل نيسان ظهر فيه أطفال يلعبون في مدينة سور بعد أن أعيد تصميمها على برنامج كمبيوتر ووعد بان "الأسر ستعيش في سلام مرة أخرى."
* عقائد مخالفة
قال مسؤول محلي إن عطاءات لإعادة بناء مسجد وكنيسة طرحت لكنه لم يورد مزيدا من التفاصيل. وكانت سور قد وضعت على خارطة التطوير العمراني لعام 2012 في إطار حملة تطوير للمباني على مستوى البلاد لكن الاحتجاجات في المنطقة أجبرت أنقرة على تعليق خطط التطوير.
وقال زولفو ليفانيلي وهو قاص ومخرج سينمائي ومؤلف موسيقي تركي "الحكومة حذرت من أنها ستسوي سور بالأرض وتبني مدينة جديدة في مكانها تضم مباني لشقق سكنية ومراكز تجارية." واستقال ليفانيلي من منصب سفير نوايا حسنة باليونسكو بعد أن أمضى فيه 20 عاما احتجاجا على الدمار الذي لحق بسور واتهامات بانتهاك حقوق.
ورفض مسؤول تركي هذه الاتهامات. وقال "المباني التي لحقت بها أضرار أثناء العمليات ستجدد في إطار مشروعات إعادة تأهيل. ومن أهم هذه المشروعات تلك المتعلقة بسور. المباني التاريخية ستجدد بشكل يلائم النسيج التاريخي."
وقبل اندلاع القتال مرة أخرى كانت جدران تمتد مسافة خمسة كيلومترات تطوق 1200 موقعا تاريخيا منها خانات قديمة وكنائس ومعبد يهودي مبنية بأحجار هياكل أقدم.
وعندما تراجع القتال في السنوات العشر الماضية رممت البلدية قصورا ومساجد وفي عام 2011 افتتح أرمن لهم جذور في ديار بكر كنيسة سان جيراجوس أحد اكبر الكنائس في الشرق الأوسط لتحصل على جائزة الاتحاد الأوروبي للتراث الثقافي (يوروبا نوسترا).
وقال رئيس البلدية السابق عبد الله دمرباش الذي عمل على تطوير سور لتصبح منطقة جذب سياحي رئيسية "أشعر كأنني أب لا حول له ولا قوة يرقب طفله المريض وهو يحتضر."
وأضاف "لم يكن الأمر يتعلق فقط بإصلاح الأماكن القديمة بل بتبني التعددية والتصالح مع ماضينا. أظهرنا أن العقائد المختلفة يمكن أن تتعايش معا في الشرق الأوسط."
وأدى اعتراف اليونسكو بالموقع وحدائقه إلى اعتبار ديار بكر في مصاف تاج محل في الهند وأهرام الجيزة في مصر.
وتواجه اليونسكو العديد من المشكلات المتعلقة بتدمير التراث العالمي في مناطق الحروب من سوريا إلى الكونجو وتريد التعامل مع ذلك باعتباره جرائم حرب.
ويؤسس النشطاء الذين يقولون إن اليونسكو التزمت الصمت إزاء ما يحدث في سور منتديات مضادة أثناء انعقاد اجتماعها في اسطنبول هذا الأسبوع.
وقال ليفانيلي "المعضلة أن دعم وتمويل (اليونسكو) يأتي من الحكومات لذلك فإن الضغوط السياسية تجعل مثل هذه المنظمات غير ذات جدوى."
وقالت لالي أولكر التي ترأس لجنة التراث العالمي أثناء فترة رئاسة تركيا لها إن القوات يجب أن تحمي النظام العام.
وقالت للصحفيين "نقترب من هذه القضايا بحساسية شديدة ولا نرغب في رؤية أي ضرر يلحق بالمواقع."
ولم يتحدث ميتشتيلد روسلر مدير مركز التراث العالمي عن سور بالتحديد لكنه أشار إلى تقرير يبدي القلق بشأنها ورحب بخطوات الدولة لمنع وقوع المزيد من الضرر.
وظلت مساحات كبيرة من مدينة سور محظور دخولها ويقف رجال شرطة عند نقاط تفتيش خلف أجولة الرمال وأعلام تركيا.
ويقول الزوار الذين سمح لهم بالدخول إن الحي الأرمني الذي كانت أسرة اتيس تقيم فيه سوي بالأرض ليصبح مثل مدرج طائرات. وكانت سور ذات يوم ملاذا آمنا. فرت فاطمة اتيس إلى هناك عندما اندلع قتال حزب العمال الكردستاني في الريف في تسعينات القرن الماضي.
وتعيش بريتان اتيس وشقيقها الآن في شقة مستأجرة في مبنى سكني على مشارف البلدة.