قصة قصيرة... علوُّ هاوية
قصة قصيرة - سيما خالد حمد صقر (فلسطين)
تتزاحم الأفكار في عقلي الذي يعجُّ بالضوضاء والصخب كلما حدّقتُ في عينيّ زوجتي ماجدة العسلية، لم يسبق لي أن كلّمت امرأة غيرها لكنني أظنُّ بأنها أفطن نساء الكون وأكثرهنَّ دهاء، فهي كما يقولها من حولي "تفهمها من الإشارة" وفي الوقت ذاته تعمد للتعبير مستخدمة الإيماءات لتحقق مآربها، بين الفينة والفينة تسلّم عليَّ بنظراتها المصحوبة بالدموع، لا أنكر أنَّ سلامها يستطيع هزَّ كياني مع ذلك فأنا أتجاهل رغبتها الحقيقية والكامنة بفتح ذاك الموضوع المشؤوم.
حدث قبل ثلاثة أعوام، جاءت زوجتي تخبرني بحصولها على عرض من قبل "صحيفة القدس الرسمية" لنشر أعمالها الأدبية، وأنا بالطبع فرحت لأجلها ورحتُ أهنئها فهي أديبة ماهرة وتنتظر فرصة كهذه منذ وقت طويل، شرعَت في العمل وتجاهلت ألسنة الناس التي انطلقت بالحديث عني وعن سماحي لزوجتي بالعمل فهذا أمر لم تعهده قريتنا من قبل.
حبي لزوجتي والإيمان الراسخ المتولد في داخلي أنها ستحقق نجاحاً باهراً جعلني أسدد الطعنات لكل الآراء وأوجه مسامعي لاستطعام أخبار عمل زوجتي، لكن للأسف فقد تولدت لدى ماجدة حسرة كبيرة فاقت سرورها الجمّ وباشرت تختلق الحجج وتبني الخزعبلات الكاذبة محاولة إقناعي بأنها غضت نظرها عن فكرة العمل وأنا طبعاً أرفض ذلك بشدة.
هذه ليست إلا البداية، فماجدة أصبحت تترأس أكبر صحيفة سياسية وتبعاً لكوني أعمل في الجيش فلطالما زودتها بالمعلومات وساعدتها باختيار أبرز العناوين ما تسبب في وقفنا الاثنين عن العمل وتحويلنا إلى مطلوبين سياسياً، ومنذ تلك اللحظة وزوجتي لا تكف عن الإلحاح بترك فلسطين والهرب لأي قطر من أقطار العالم عوضاً عنها، أبيت مجرد التفكير باقتراحها ورحت أحدثها عن جمال الحياة هنا فما المشكلة بأن نختبئ لمئة سنة أخرى؟ لم نهرب ونحن لم نرتكب خطأً؟ كنت دائماً أمسك وجهها بيدي وأقول لها: غداً ينسانا الاحتلال ونعود لحياتنا الطبيعية وننجب أطفالاً كثيرين نقص لهم بطولتنا، سنعلمهم الشجاعة والصدق، سنعلمهم الوطنية.
فتبدأ بذرف الدموع وتلازم الصمت، وذات مرة خرجت من الخربة التي نقطن فيها وقلت لجارتنا أم علاء أن تذهب بماجدة ريثما أحضر بعض الفاكهة من الحقل فلم أشأ لها البقاء وحيدة، وعندما عدت... كانت الفاجعة، ظلام دامس غمر المكان وكأنها عاصفة جرفت المنطقة بما فيها، أجهشت بالبكاء وصحت أنادي بأعلى ما حباني الله من صوت وطفقت أقول: زوجتي منى أين أنت؟ فإذا بأم علاء تربت على كتفي وتقول: البقاء لله وحده.
أنا: لا يعقل كيف وأين ومتى؟
أم علاء بصوت مرتجف باكٍ: قدم الاحتلال وطاردها يقصد طرح بعض الأسئلة عليها فوقعت في الهاوية التي تبعد عنا ثلاثمئة متر.
على رغم هول الموقف، وإحساسي بأن كل ما في جسمي استولى عليه الشلل ركضت بسرعة للهاوية فوجدت العديد من الناس مجتمعين هناك والتفت إليّ أحدهم قائلاً: ألم يكن من الأفضل لكما الهرب لدولة أخرى؟ ثم بربك أتبكي لأجل امرأة؟
وقال آخر: الهاوية هي نهاية من يتدخل بالسياسة والوطن.
مسحت دموعي واستجمعت قواي التي قد خارت وقلت: تافه من لم يقدر امرأة، ومن قال بأن بكاء الرجال عيب؟ هذه الهاوية التي لا تعجبكم أرقى من أن تصلوا أنتم إليها، والله إن زوجتي تحملت ما لم تتحمله امرأة، صبرت وثابرت، صحيح أن جسدها سقط في الهاوية لكن روحها حلقت برفقة كل القيم السامية في فضاء تعلن فيه بطولة فلسطينية، رحمك الله يا ماجدة يا من حولتِ الهاوية إلى أعلى مرتبة.
صورة زوجتي التي سقطت منها أثناء مطاردتها هي كل ما أملكه الآن ما عدت محاكماً أو ملاحقاً فالاحتلال يمتع ناظريه برؤيتي بعيداً عن زوجتي، لكن ما لا أحد يعلمه أنها مازالت حية، كل الآس يحمل ريحها تنشره الرياح تعبق به أرجاء القدس وتأخذ معه ترنيمة الانتصار وتردد الجملة التي أسرَّت بها إليّ ألا وهي " كم كنت محقاً، والله إنَّ شهادة في أحضان الوطن خيرٌ من ألف حياة كنت سأعيشها خارجه".