هل يساعدنا مسلسل "أفراح القبة" في تطهير أنفسنا من هزائمنا؟
الوسط - محرر المنوعات
يجد المُشاهد نفسه في مسلسل "أفراح القبة"، داخل كواليس أحد المسارح المصرية في الستينيات، التي يُقرر مديرها عرض مسرحية جديدة، لكن الأبطال يعترضون على أدائها. في المسلسل، ليست المسرحية المعروضة عادية تُصوّر شخصيات خيالية أو حيوات مُخترَعة، بل تُجسّد حياة أعضاء الفرقة المسرحية أنفسهم. والإنسان عادةً عدو الحقيقة، حين تتعارض مع مصالحه وصورته أمام نفسه وأمام المجتمع، بحسب تقرير لموقع " رصيف22".
تعرية واقع أبطال المسرحية دون "رتوش"
ليست "أفراح القبة" الرواية الأولى لنجيب محفوظ، التي تتحول إلى مسلسل، كما أن المسلسل ليس الأول في جمعه هذا الكم من النجوم والممثلين القديرين من كافة أنحاء الوطن العربي. وإن كان هذا سبباً رئيسياً لجذب الجمهور لمتابعة العمل في المقام الأول. ناهيك بسجل المخرج محمد ياسين الزاخر بالنجاحات، كان آخرها مسلسل "موجة حارة" عام 2013 عن قصة أسامة أنور عكاشة. إلاّ أن ذلك ليس ضماناً لنجاح العمل فنياً ولا حتى جماهيرياً.
مؤلف المسرحية، وهو بطل الرواية عباس كرم يونس، قرّر أن يُعرّي واقع أبطال المسرحية من خلال كتابة حياتهم، وإجبارهم على تمثيلها، لكي يروا أنفسهم أمام المرآة من دون "رتوش". وهو من خلال إجبارهم على عرض حياتهم على خشبة المسرح، يُجبِرهم على مواجهة ماضيهم عُزَّلاً، لكن لتطهيرهم من شعورهم بالعار تجاهه ومن ثم تحريرهم منه.
فالماضي، بحسب الرواية، هو مشكلتنا الأساسية، ليس لأنه كان، ولكن لأننا لم نتصالح مع أنه كان، ولم نغفر لأنفسنا أننا سمحنا له بأن يكون. في حوار لمؤلف المسرحية "عباس" مع والدته "حليمة"، في محاولة لإقناعها بزاوجه بـ"تحية"، الممثلة في المسرح، تُشير "حليمة" إلى ماضي "تحية" الأسود، وتقول له لا أحد يستطيع نسيان الماضي. هكذا يبدو الماضي في علاقة الأبطال بعضهم ببعض ونظرتهم لحياتهم أشبه بوسواس قهري، يُسيطر على كل الشخصيات بشكل يُربِك حاضرهم ويعوق تصالحهم مع ذاتهم، وتقبّلهم لحياتهم. فنرى كل بطل من أبطال المسرحية محبوساً في ماضيه، لا يستطيع تجاوز نقطة معينة فيه. مثلاً "طارق رمضان"، أحد أبطال الفرقة المسرحية، لا يستطيع تجاوز زواج "تحية"، حبيبته وزميلته في المسرح، بـ"عباس"، الذي كان يصغرها بكثير، وكان بمثابة أخيه الأصغر أيضاً. و"حليمة"، لا تستطيع تجاوز علاقتها مع مدير المسرح "سرحان"، ثم نسيانه للعشرة و"العيش والملح"، واتهامه لها بسرقة الخزنة. و"كرم"، والد المؤلف، لا يستطيع نسيان ماضي "حليمة". وهي لا تستطيع تجاوز مُعايرته لها بماضيها. "عباس" نفسه لا يستطيع مسامحة والديه على ماضيهما، ولا "تحية" على ماضيها بالرغم أنه وعدها ببدء صفحة جديدة حين قرر الزواج بها. هكذا، يُصبح البُعد الزمني في العمل ركيزة أساسية يحاول المخرج التعبير عن تداخله وتشوّشه عند الشخصيات، من خلال استخدام تقنية الـFlashback، وعرض مشاهد عديدة من أزمنة مختلفة.
هزيمة الماضي هي هزيمة الحاضر
لا يجوز إغفال أن الهزيمة التي يشعر بها أبطال المسرحية/ المسلسل أمام ماضيهم، هي الهزيمة نفسها، التي كان يشعر بها العربي منذ حرب الـ67. هزيمة الأبطال على المستوى الخاص، هي إذاً جزء من هزيمتهم على المستوى العام. وكأن الهزيمتين، هزيمة الحلم وهزيمة الحرب، لا تنفصلان، بل تُعزّزان بعضهما بعضاً. لكن الهزيمة على المستوييْن تتجاوز كونها حالة عابرة أو أزمة طارئة، فتصبح مُتلازِمة مرضية حين لا تتم مواجهتها، ولا البحث في أسبابها وسياق معطياتها. لهذا يُقرّر المؤلف، من خلال بطله المؤلف، أن يشحذ قواه لإجراء عملية جراحية لتحرير أبطال المسرحية من عار ماضيهم. ولأن العام والخاص لا ينفصلان حتى في ذلك الماضي، فإن التحرّر من عار هزيمة 67 هو جزء لا يتجزأ من عملية المواجهة مع الماضي الشخصي. وكما أن المسرحية المسلسل، هي تعرية لواقع أبطال الرواية، فإن المسلسل المسرحية هو دعوة للمكاشفة ومواجهة المُشاهِد لماضيه الخاص والعام.
وبالرغم من قسوة التعرية والمكاشفة، يبقى فيها شيء غامض يجذب المُشاهِد، الذي يتورّط بشكل لا واع في عملية التطهير، التي ينخرط فيها الممثل، حالما يستجيب لرغبة التخفيف من عبء الماضي.
توريط المشاهد في عملية المواجهة ثمّ التطهير
تحدّث أرسطو عن عملية التطهير، وهي تحصل للممثلين والمتفرجين أثناء تقمّص شخصية درامية ومُعايشة معاناتها لتفريغ عواطفهم (الخوف والشفقة خصوصاً) من خلال الانغماس في العمل الفني. ويبدو هذا التطهير كطقس من طقوس الاعتراف المسيحية، الأشبه بعملية ولادة جديدة للمُعترِف. وهذا ما يُؤكدّه طارق رمضان في الرواية: "ما هي بمسرحية، إنها اعتراف". وكانت عملية التطهير في العمل مضاعَفة، فبينما كان أبطال المسرحية في المسلسل يتطهرّون من ماضيهم، كان جمهور المسرحية في المسلسل يتطهّر بتطهّر الأبطال، كما كان جمهور المسلسل يتطهّر بتطهّر أبطال المسرحية وجمهورها على السواء.
يقدّم العمل المسرح ليس فقط على أنه وسيلة استشفاء ذاتي، بل وسيلة لتحرير الإنسان من العجز. إذ يخلق على خشبة المسرح واقعاً بديلاً للواقع الذي يرفضه. يهبه ذلك الأمل الأخير في وجود احتمال آخر، إمكانية خلق بديل جديد أقل بشاعة من صورة الواقع! لهذا كانت المسرحية هي طريقة "عباس" الوحيدة في مقاومة الهزيمة وإحداث التغيير: "الفن بالنسبة لي ليس فناً فحسب، ولكنه البديل عن العمل الذي طَمِحَ إليه المثالي العاجز. ماذا فعلتُ لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضاً عن الجهاد في الميدان الوحيد المتاح وهو المسرح؟".
الرحمة ثم الغفران ثم التسامح
الخيال المتجسّد في المسرحية لا يتناقض مع الواقع المتجسّد في حياة الأبطال، بل إن المؤلف يُرينا أن الخيال هو الذي يُحرّرهم من واقعهم الذي أثقل كواهلهم. أي أنه يُساهم بشكل أو بآخر في صياغة هذا الواقع. وكأنه يريد أن يقول إن هذا الخيال الذي نستهين به يمكن أن يكون أكثر واقعية من الواقع نفسه. وإن كنا كبشر غير قادرين على تغيير الكثير من الأقدار والظروف التي وجدنا أنفسنا فيها، لكننا نستطيع تغيير المواقع التي نقف فيها، والزوايا التي نرى حياتنا وظروفنا مِنها.
وهذا ما حاول المخرج فعله في معالجته الدرامية العبقرية من خلال استلهامه الفكرة الشكسبيرية الشهيرة، بأن الحياة مسرح كبير، وما البشر إلا ممثلين فيها. فإذا به يجعل المُشاهِد يتصوّر حياته الشخصية كمسرحية على الخشبة، مثلما يجسّد أبطال المسرحية حياتهم في الواقع على أرض المسرح. وهو بذلك يجعل المُشاهِد يُشارك الممثلين في معايشة واختبار حياتهم من منظور "الآخَر". الشيء الذي يُسهّل عليه اختبار حياته هو أيضاً من منظور آخَر أبعد. ومُمارَسة التقمّص هذه، تُساعِد الإنسان على إدراك أن الحقيقة نسبية مهما بدت قاطعة أحياناً. وهذا الإدراك يجعله أقدر على ممارسة فضيلة الرحمة، التي تتجلى في قدرته على الغفران للآخرين، وبالتالي التصالح مع نفسه ثم مع العالم.
جمهور المسلسل جزء من جمهور المسرحية
من الصعب الحكم على العمل من الناحية الفنية قبل مشاهدته كاملاً، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ما فعله محمد ياسين في المسلسل كان أسطورياً في قدرته على إظهار الممثلين بهذا القدر من التلبّس بالشخصيات، فضلاً عن إحكام ملامحها النفسية. ناهيك باهتمامه بالتفاصيل، سواء تلك المتعلقة بمظهر وملابس الممثلين، أو تلك المتعلقة بالمشاهد الخارجية وواقِعية أماكن التصوير. بالإضافة إلى حركة الكاميرا وانسيابيتها التي تأخذ المُشاهِد وراء الكواليس حيناً، وتضعه أمام خشبة المسرح حيناً آخر. هذا عدا احتفاظه بمساحة الغموض التي جعلتْ حلقات المسلسل متشرّبة بالإثارة غير المفتعلة، الأمر الذي عزّزه تلاعبه بالأزمنة وتداخل المَشاهِد. كما أنه نجح في محاكاة تعدديّة الروايات في النص الأدبي من خلال عرض مشاهد مُتكررة، لكن منقوصة، كما لو كانت قِطَعاً من أُحجية مُفكّكة، ليُعيد تركيبها ووضعها في صورتها الأكبر مع رِواية كل شخصية للأحداث من منظورها.
استطاع المخرج أن يُوظّف مُشاركة الجمهور في العمل بشكل لافت على أكثر من صعيد. فقد نجح في جعل جمهور المسلسل جزءاً من جمهور المسرحية داخل المسلسل، بالإضافة إلى كونهم يعايشون الأبطال على المسرح، خلف الكواليس وأمامها، وتلك الموجودة على كراسي المتفرجين. وكأن المخرج يشارك في خلق قالب فني جديد يجمع بين العناصر المسرحية والدراما التلفزيونية على السواء. استلهام رواية "أفراح القبة"، التي تحتفي بالفن وترفض الرضوخ للماضي في عمل درامي ليس غريباً، بل هي حاجة تستدعيها معطيات الواقع العربي الغارق في ثقافة الموت والمُستسلِم للغة الكراهية. كان عباس يونس يشعر "بحنين جارف إلى الحرية… إلى الإنسانية المفقودة…". لهذا كان يرى في الفن الأمل الوحيد، "أجل أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معاً". الفن هو "الأمل الباقي" لشعوب ترزح تحت وطأة الهزيمة منذ النكسة وتنشد الحرية منذ بدء الأزل. إنه وقبل أي شيئ تجديد لإيمانها بالحياة.