قصة قصيرة... الفرار من الأحياء
قصة قصيرة - رابحة عيسى علي
هل تذكرين؟ عندما كنا صغاراً نلعب في الظلام... نمسك أصابع بعضنا وتلتصق أقدامنا ونسمع ضحكاتنا وصوت نبض أمنا... ما أحلى الظلام الذي كنا نقضيه معاً.
نهضت زينب من أمام قبر توأمها زهراء... ودمعتان غضتان سالتا على خديها.
أمسك محمد بيد أخته زينب ليقودها نحو السيارة بينما كانت تضع قدمها محل آثار قدمه حتى لا تتوه أو تتعثر... وأخذا يسرعان الخطى فالناس قد أقبلوا يزورون موتاهم ولابد من الفرار من أي مكان يعج بالأحياء.
زينب لم تكن عمياء ولا صماء ولا بكماء... ولكنها منذ رحيل توأمها تعيش حياة فيها الكثير من الخوف والعتمة..فأي مكان غير البيت هو مكان مخيف وغير آمن، وأي كائنات آدمية غير أسرتها هي كائنات غريبة لا يمكن الحياة بأمان معها.
كبرت زينب وكبر خوفها فعلى رغم تفوقها في دراستها وبراعتها إلا أنها كانت تعاني الصمت والانفصال التام عن أي عالم خارج أسرتها.
في أول يوم من أيام المدرسة الثانوية دخلت أستاذة الفنون صف زينب... و بدأت في تفقد أسماء الطالبات... لم تجب زينب... رفعت المعلمة رأسها لتبحث عنها فتفاجأت بالطالبات يشرن بأيديهن إلى زينب ويشرن بأيديهن الأخرى إلى أفواههن... تنفست المعلمة الصعداء فقد فهمت أن زينب تعاني من الصمت الاختياري.
وضعت إشارة بجانب اسمها لتناقش حالتها لاحقاً مع المرشدة الاجتماعية بالمدرسة... وفور قرع الجرس توجهت للاستفسار في مكتب الإرشاد الاجتماعي الذي قضى على مشاعر الأمل بداخلها عندما تم إخبارها بأن أم زينب ترفض تدخل أي أحد في شئونها وتنكر معاناتها أصلاً من أي عرض غير طبيعي.
ظلت زينب لغزاً يثير فضول زميلاتها ويتحدى معلماتها؛ فالتواصل مع هكذا إنسان صامت صائم عن النظر والكلام لهو أمر في غاية التعقيد.
وفي يوم، بينما كانت المعلمة تقلب في حسابات برنامج (الانستغرام) لفت نظرها أحد الحسابات لفتاة مبدعة في الرسم ولكن معظم لوحاتها كانت أشلاء مقطعة ودماء متقطرة وأجساد بلا رؤوس؛ ما زاد فضولها لتتقصى عن صاحبة الحساب لتكتشف أنها زينب الصامتة نفسها. أيعقل أن أحداً يؤذيها أو أنها تفكر في الانتحار؟ أسئلة كثيرة بدأت تقفز ولا تجد لها إجابة. فحتى عندما لجأت المعلمة مرة أخرى للمرشدة الاجتماعية لتنقل لها هذا المؤشر المخيف لم تجد اهتماماً جاداً .. بل وطلب منها ألا تكبِّر الموضوع بذريعة أن كل القصة تكمن في رحيل توأمها في حادث أمام عينيها ورؤيتها مشهد الدماء والأشلاء فقط لاغير.. هكذا بكل بساطة.
في إحدى حصص الفنون وبينما كانت زينب ترسم لوحتها وهي جالسة على كرسيها الذي كان أكثر موجود يفهم صمتها...هدأ الضجيج حولها وارتفع بداخلها..وامتدت يد تنبض بالحياة فوق لوحتها مملوءة بزهور بيضاء... وصوت معلمتها..مدي يديك الرائعتين يازينب لأنثر فيها الورود.
ارتفع الضجيج في قلب زينب واشتد الصراع بين عقلها البائس وقلبها الذي يريد الحياة... وأسقطت دمعتين ساخنتين على لوحتها... وصارت تخاطب نفسها..يكفي..أريد أن أتكلم وأنظر إلى أعين أحبتي وصديقاتي ومعلماتي..أريد أن أضحك وأخطئ وأسقط وأنهض..أريد أن أصنع نجاحاتي.. لا أريد الفرار من الحياة.
وبعد برهة رفعت زينب يديها المرتعشتين أمام معلمتها لتنثر الزهور فيها فتشعر بنعومة الحياة ودفئها وروعتها... شكراً يا معلمتي.. إنه صوت زينب عاد إلى الحياة.
رجعت زينب ذلك اليوم وكأنها تبصر الدنيا لأول مرة.. نادت توأمها وهي تنظر إلى السماء... سامحيني لم أعد أحب الظلام.