الباكستاني الفائز بجائزة «الفن جميل 4» غلام محمد: اخترعت لغة بصرية من الحروف العربية
الوسط – محرر المنوعات
تشكّل اللغات وحروفها التي تمكّن البشر من التواصل، قضية أساسية في فن الباكستاني الشاب غلام محمد الذي فاز بواحدة من أهم جوائز الفن الإسلامي المعاصر، وهي جائزة «الفن جميل 4» التي تمنحها كل سنتين مؤسسة «الفن جميل» السعودية ومتحف «فيكتوريا أند ألبرت» البريطاني، وقيمتها 25 ألف جنيه استرليني ، وذلك وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم الجمعة (24 يونيو / حزيران 2016).
وهو الفنان الباكستاني الأول الذي يفوز بهذه الجائزة، والأصغر سناً بين المرشّحين إليها، إذ يبلغ عمره 27 سنة فقط، إلا أن والديه البسيطين الأميين اللذين لا يميزان بين الأرقام لم يتنبّها إلى أن المختار في مسقط رأسه في قرية كاتشي في إقليم بلوشستان (Kachi in Baluchistan province) سجّله في قيد النفوس من مواليد 1979، بينما ولد عام 1998... ولهذا الموضوع مع الأمية واللغات، حكاية أخرى ترتسم خطوطها منذ كان محمد طفلاً يتكلم لغة قريته المحلية وهي الجاموث (Jamot) المتأتية من اللغة السندية التي تتكلمها قبائل السند في باكستان. «كنت أتكلم لغتي الأم ولا أعرف كتابتها أو قراءتها، وكان الذي يحّيّرني منذ كنت طفلاً في القرية وبعدما انتقلت إلى مدينة كويتا، ومن ثم إلى الجامعة في لاهور، أن اللغة الرسمية في باكستان هي الأردية والتي نتعلمها في المدرسة، أما اللغات الأخرى التي نتحدثها جيداً فهي منسية!»، كما يقول في حديث إلى «الحياة» التي التقته عقب نيله الجائزة في إسطنبول حيث تعرض أعماله للمرة الأولى خارج باكستان، في متحف «بيرا» للفن الإسلامي، برفقة 10 أعمال أخرى وصلت إلى اللائحة القصيرة للجائزة.
ويضيف: «ترعرعت في بلاد تكثر فيها اللغات وتتداخل اللهجات، وأنا أتحدث 6 لغات محلية، ما عدا الإنكليزية التي ما زلت لا أتقنها. من هنا كان اهتمامي باللغة كوسيلة اتصال قد تبني جداراً عازلاً بين الناس وبين أبناء الشعب الواحد، وقد تفتح لهم آفاقاً واسعة في آن. فأنا عندما انتقلت من القرية بعد وفاة والدي إلى المدينة، أحسست بغربة، خصوصاً لناحية اللغة الأردية التي لم أكن أتقنها، وهذه التجربة كانت المحفّز الأول لأكتشف دلالات وخفايا اللغة وتاريخها وأشكال حروفها التي تختلط في بلادنا بين الفارسية والعربية والهندية». وعلى رغم تشابه أساسيات الحروف بين اللغات المستخدمة في باكستان، إلا أن اللفظ والمعنى واللهجة تختلف، الأمر الذي وسّع الهوة بين محمد و»المجتمع الجديد الصلب» الذي انتمى إليه.
الصبر والدقة هما شغفي
يعتمد عمل غلام محمد على جهد كبير ووقت طويل وصبر لا حدود له. فهو يبحث عن كتب باكستانية قديمة في المكتبات العريقة في بلده، خصوصاً في سوق «أناركالي بازار» (Anarkali Bazaar) في لاهور، مكتوبة غالباً بخط اليد، ومتخصّصة في ثيمات اللغات وأسرارها ووسائل التواصل التاريخية. يختار ما يلفت انتباهه من هذه الكتب، يقرأها، ومن ثم يحدّد فقرات معيّنة كي يقتطع حروفها حرفاً حرفاً بواسطة قاطعة دقيقة وحادة.
هذه الأحرف الأردية (اللغة الرسمية في باكستان، وهي لغة تطوّرت مفرداتها من السنسكريتية والفارسية والعربية والتركية والبشتونية) تكتب عادة بخط عربي فارسي معروف بالنستعليق أو بالخط العربي الكوفي. تجذب الأشكال الهندسية لهذه الحروف الصغيرة جداً التي لا تُرى بأم العين، محمد غلام، فيتفنّن في تقطيعها، ثم يعيد تركيبها ولصقها بطريقة مكثّفة بالغة الدقة، على ورق مقوّى يشبه ورق البردى ويسمى الوصلي (wasli) في باكستان. بالتالي تتّخذ تلك الحروف مجتمعة، أشكالاً تجريدية ثلاثية الأبعاد، أقرب إلى المنمنمات التاريخية الإسلامية التي استوحى منها محمد طريقة عمله، كما يؤكد. وهذه الأعمال تستغرق ساعات تصل إلى 20 ساعة يومياً يقضيها هذا الفنان الهادئ البسيط الموهوب وحده برفقة القاطعة الصغيرة في بيت صغير متواضع لا مكيّف هواء فيه ولا تدفئة. ويضيف: «أنا لست اجتماعياً وأفضل البقاء في البيت مع لوحاتي والعمل بجهد. وقد تكون هذه طريقة من طرق العلاج النفسي والتأمل، وقد تكون نوعاً من جلد الذات أو الوجع الذي أخزّنه من طفولتي التي حرمت فيها من والدي».
هذا الشاب الذي ولد في كنف عائلة فقيرة جداً «لا تفقه بالفن ولا تعتبره مهنة تسدّ الجوع»، على حدّ تعبيره، يحمل في طيات شخصيته وطريقة عيشه شيئاً عميقاً من الثقافة الصوفية المتجذرة في بلاده. فهو بسيط وزاهد في لباسه وفي طريقة عيشه، ولا تعني له الأموال إلا وسيلة «لمساعدة أخوتي الثلاث وعائلاتهم في القرية». أما المبلغ الذي ربحه من خلال جائزة «الفن جميل»، فيستأجر فيه «استوديو واسعاً وأفضل من الذي يسكن فيه كي يرتاح في عمله، وسيخصّص مبلغاً منه لأولاد أخوته كي يتعلموا في مدارس جيدة». تلك الثقافة الصوفية التي تعتمد على الإحسان والإيمان والزهد، يعتمد فنها على التكرار والروتين والهشاشة والصلابة، لا تظهر فقط في شخصية محمد بل في أعماله أيضاً، التي تشكل سراباً من الكلمات والرسائل والنصوص غير المقروءة. وعن العلاقة بين الصوفية وأعماله يقول: «أنا أنتمي إلى هذه الثقافة وأقرأ الكثير من القصائد الصوفية، لكنني بصدد البحث عن أوجه الشبه والخيوط التي تجمع أعمالي وأفكاري بالصوفية».
منمنات إسلامية
عندما ترى أعمال هذا الشاب المغمور والذي بالكاد تعثر على معلومة عنه عبر محركات البحث الإلكترونية، خصوصاً قبل نيل جائزة «الفن جميل4»، تحسبها سجادة عجمية أو من جنوب آسيا حيث يهتمّ النساجون هناك بالتفاصيل والمنمنمات وبنوعية النسيج الذي قد يعيش دهراً. فهي نصوص مكثّفة هشّة وتجريدية وحساسة وتجمع متناقضات كثيرة، خصوصاً لجهة المواد التي يستخدمها غلام وهي الورق الهش وورق الوصلي المقوّى، والحبر الفارسي الذي لا يمحى، وصفائح الذهب والفضة التي تستخدم في صناعة الحلويات. فهي أشكال معقدّة وبسيطة في آن، تعتمد التكرار في الحروف وطريقة رصفها، وتشكّل مجتمعة ما يشبه الجدار الفاصل الشفاف بين المشاهد واللوحة التي لا يضع لها غلام محمد عنواناً. فالمشاهد يرى النص وقد يرى بصعوبة بعض الحروف، إلا أنه لا يمكن قراءة شيء منها، تماماً كما نرى الأشخاص الذين لا نتكلّم لغتهم وتصبح لغة الإشارة أو اللغة البصرية هنا هي الوسيلة.
وهنا يشرح: «هذا هو المقصود بالضبط من أعمالي، ألا تكون مقروءة، فأنا أراها كأشكال مرصوفة بطريقة تجريدية، وأريد لكل مشاهد أن يحدّق بها مطوّلاً ويعيد هو نفسه تركيب الكلمات، وأن يقرأها كما يحلو له بحسب تجاربه الشخصية وخلفيته الثقافية. لذلك تعمّدت ألا أضع عنواناً للوحاتي لأنني لا أريد تأطيرها أو حصرها بموضوع معين أو فكرة معينة». ويختم غلام محمد الذي سحرته الحروف واللغات وفن الكولاج الذي يستوحي أعماله من الفن الإسلامي ومنمنماته: «أنا هنا أخترع لغة بصرية جديدة، مفتوحة على كل الاحتمالات والثقافات، ويمكن لأي إنسان قراءتها كما يحلو له».