قصة قصيرة ...ما بين مهدي ولحدها
قصة قصيرة - سوسن هشام علي
[ ذهب الجميع ولم يبقَ سوانا ...أعلم أن اعتذاري لا جدوى منه الآن ولكني أتوسل إليك أن تسامحيني .
كانت مثوى يأوي إليه طفل يتيم، كان صدرها كما السندس الرغيد وغطائي لمساتها. كنت أنام وفرشي أهدابها ورمش عينيها تظللني أفياؤه، كنت أصبح على نور من قسماتها ستائره خصلات شعرها. أفَلَت سنين العمر حاملة معها مشاعراً كانت في الفؤاد... مشاعراً قَتَرْتُ بها على من أَجْدَتْني كل ما تملك.
كنت أدرس في المرحلة الثانوية ولكن كنت وحيداً، منطوياً والمحط الأول للسخرية عند زملائي فقررت التعرف على مجموعة من الشباب يهابهم الجميع وأخالطهم لأتطبع بطباعهم وأخرج من العزلة التي تسكنني. كنا نلتقي كل أسبوع حتى طلوع الفجر ولكن أتدرين ما كنا فاعلين؟... بدأ الأمر بتدخين وانتهى بتعاطٍ لحقن المخدرات وليتني لم أفعل ما فعلت ولكن لم ينتهِ الأمر هنا بل إنها البداية.
كل يوم أعود إلى المنزل فجراً بعد أن تركت الدراسة ولا أجد سوى أمي تنتظرني وتحاول منعي من الطريق الذي أسلكه ولكن أي العرفان كانت تنال؟... كانت إذا ما وقفت أمامي لتمنعني أضربها فتقع على الأرض دون أن تستطيع النهوض، كانت إذا ما أخذت ما لدي من الحقن أحرق يديها بماء يغلي، كنت أحبسها في الغرفة تارة لأيام وتارة لأسابيع وعلى رغم أنها كانت بكماء إلا أن صوت أنينها لن يفارقني يوماً. كنت كلما دخلت الغرفة لأعطيها الطعام تمسك بقدمي لتمنعني الخروج والابتعاد عنها. مرت سنوات وتقدم العمر بأمي فشعرت بأنها وِزْرٌ ثقيل أحمله فقررت أخذها إلى دار العجزة، أخذتها معي إلى السيارة وكانت مبتهجة جداً والسعادة ملء وجهها وعندما رأت أننا عند دار العجزة رفضت النزول وبدأت بالأنين ولكن العاملات هناك أخذنها ووضعنها على كرسي متحرك والدمع يسيل من عينيها بصمت وحاولت مناداتي فلم تستطع، حاولت القيام من الكرسي فوقعت، حاولت أن تصل إليَّ حبواً ولكنها تأخرت كثيراً.
(بعد مرورعدة سنوات)
وجدت نفسي مستلقٍ على سرير في المستشفى بعد أن أغمي علي بسبب جرعة زائدة من المخدرات والطبيب يقول لي إنني مصاب بسرطان في الدم منذ فترة طويلة ولا توجد فرصة للشفاء. أول من تردد على ذهني في تلك اللحظة هي أمي فذهبت إلى دار العجزة لأخذها والأفكار تعصف بي وأنا رهينها تحِلُّ بي حيث تشاء وترتحل، صور وأصوات تمُر أحاول تناسيها فلا أستطيع، أقود دون تفكير غايتي رؤيتها ولو لمرة فأقبل قدميها وأقول لها إنني أحبها وعندما وصلت وسألت عنها أخبروني بأنها قد توفيت منذ سنة تقريباً تاركة لي ورقة، فتحت تلك الورقة فكانت فارغة، لا شيء فيها سوى كلمة "أحبك".
رحلت ... ورحَّلت معها ريحاً من رياحين دار السلام، رحلت وغلَّقت بالرحيل أحد أبواب الفردوس، رحلت من هام بي فؤادها بكل اللهجات على رغم صمتها، رحلت من كانت روحها تستصرخ بي وجعاً ولم أجبها، لقد رحلت أمي ولم تستبقِ لي سواكِ ... لم تبقِ لي سوى صورتها، صورتها التي أشكو لها بثّي وحسرتي.
أتعلمين؟... ما بين مهدي ولحدها قصة سأبقى حبيساً بين كلماتها خلف قضبان الندم حتى أذوق الردى فألقاها .