برأيك ما سبب عزوف كثير من المعلمين عن المواصلة في مجال التدريس واللجوء لخيار التقاعد المبكر؟
انتشر حديثاً خبر اتصال جهات بوزارة التربية للمعلمين الذين قدّموا أوراقهم للتقاعد أو استقالاتهم بغية ثنيهم عن هذه الخطوة. وقد يستغرب البعض هذا الكم الهائل من طلبات التقاعد التي تقدّم بها عدد من المعلمين على رغم أن البعض يعتبر أن راتب المعلمين هو من أفضل الرواتب، كما أن هناك الكثير من المميزات التي يحظى بها المعلم وربما يعتبر البعض مهنة التعليم من المهن الجاذبة، ولذلك قد يستغرب من إقدام عدد كبير من المعلمين على تقديم أرواقهم للتقاعد المبكر.
هذا الاستغراب ليس له محل أمام من خبَر مجال التعليم وعرف بواطنه، ولم يكن هذا الاستغراب قائماً لديّ شخصياً منذ أول يوم حطت فيه رجلي ميدان التعليم. حينها كنت أحمل صورةً جدّ ورديةٍ عن الوضع التعليمي. كان أول يوم دراسي قابلت فيه عدداً من المعلمين برفقة أحدهم حيث عرّف بي المجموعة كمعلم جديد، وكانت ردة فعل أحدهم الابتسام ومن ثم قال "ابشر".
حجرة المعلمين التي كنت أقطن فيها كانت عبارةً عن صورة أخرى عكست لي حقيقة الوضع الذي يشهده قطاع التعليم، وما يحكى عن خرافة الرضا الوظيفي. أحد المعلمين وكان أمامه سنوات قليلة للتقاعد، كان لديه رزنامة يستعملها بشكل يومي منذ بداية العام الدراسي ليعد فيها الأيام المتبقية على انتهاء الفصل الدراسي، وكان يذكّرنا بشكل يومي عن عدد الأيام المتبقية على انتهاء الفصل الدراسي. معلّم آخر السؤال الذي كان يكرره أمامي بشكل يومي: هل سنظل طوال عمرنا على هذه الحالة (يقصد الحالة المزرية بالنسبة للوضع التعليمي بحسب رأيه). هذه بعض الحالات التي شهدتها، ولو تكلمت عن كل الحالات لاحتجت إلى كتب كثيرة لأفصّل فيها. وهنالك كلمة لافتة كانت لأحد المعلمين القدامى لازال صداها يتردد لدي، حيث أخبرني بأنه كان يحب في الماضي الحضور إلى المدرسة حتى إلى ما بعد الدوام المدرسي، ليقوم بعملية التدريس فترة العصر، أما الآن فهو لا يصدّق أن يسمع جرس المغادرة حتى يهم سريعاً للمغادرة.
قد يكون آخر مدرس ذكرت حالته، هو أكثر من يعطي إجابةً وافيةً عن سبب تقديم هذا العدد الكبير من المعلمين استقالاتهم، فللمسئولين في وزارة التربية أن يدركوا تماماً أن أسباب فرار المعلمين له أسبابه التي لم تعد خافيةً على أحد، وكان أحد المدرسين القدامى يخبرني بأن القادم بالنسبة للمعلمين هو أسوأ بكثير مما هو موجود، وهذا بالفعل ما تحقق.
وكدلالة على عدم الرضا الوظيفي للمعلم، فإنه في السابق كان ينظر للمعلم العربي الوافد بأنه أكثر المتمسكين بوظيفة التعليم نتيجة للمميزات المادية التي يحصل عليها، أما الآن فنتيجةً للضغوط التي يجدها هذا المعلم، فإن كم الاستقالات من هذه الفئة كبير، ولهذا الأمر دلالة كبيرة على وضع المعلم الوظيفي.
للمسئولين أقول: عندما يحس المعلم بأنه لدى الوزارة مجرد آلة تعمل دون أحاسيس ولا مشاعر؛ عندما يكلف بمهام وأعباء لا تنتهي حتى بعد مغادرته الدوام المدرسي؛ عندما يحس المعلم بأن مكانته أمام طلبته هي آخر اهتمامات الوزارة، وأن أي شخص بإمكانه جرجرته للتحقيق، ولربما إلى إيقاع عقوبةٍ ظالمةٍ به؛ عندما يرى كل هذه الرقابات التي تفرض عليه سواء من قبل الوزارة أو من موجّهيها أو الإدارة المدرسية أو الإشراف التربوي أو الإداري، أو من قبل أولياء الأمور أو معلمه الأول؛ عندما تقلّص إجازاته بشكل سنوي ليقتطع منها بعض الأيام؛ عندما تهان كرامته من قبل أحد الطلبة ويطلب منه نسيان الأمر كما لو أنه لم يكن، وعلى العكس من هذا لو أخطأ هو بحق أي طالب كان، فإن أشد العقوبات تتخذ ضده؛ عندما يترك المعلم وحيداً في فصله أمام ثلاثين طالباً، ويُطالب بحل كل المشاكل التي تقع فيه، وكأن بيده العصا السحرية التي تحل بها كل المشاكل!
عندما يجد التعالي والغرور لدى البعض من منتسبي الوزارة حينما يقوم بمراجعتهم. وعندما يتذكر أن الوزارة لا تذكره إلا حين إصدار الأوامر والتحذيرات، وأنه قليلاً ما تذكره بكلمات الإطراء والتشجيع، وعندما يطالب المعلم للإنتقال إلى درجة أخرى هي من مستحقاته أن يقضي أربع سنوات أخرى خارج الدوام المدرسي ليحصل بذلك على رضا الوزارة عنه للانتقال لدرجة أخرى.
وما ذكرناه هنا من أسباب تدفع المعلم للتفكير في التقاعد ما هو إلا نزر يسير، وهذه الأسباب بحد ذاتها تجعل من المعلم يعد الأيام، وينتظر بفارغ الصبر أقرب فرصة للتقاعد، فكيف إذا تم الحديث عن فرض قانون جديد يرفع سن التقاعد لما بعد الستين؟
وبالنسبة لمقال إحدى الكاتبات المعنون "ليست في وزارة التربية والتعليم فقط"، فصحيحٌ ما ذكرته الأخت الكاتبة أن طلبات التقاعد ليست منحصرة بوزارة التربية فقط خصوصاً بعد التصريحات الأخيرة لعدد من المسئولين التي أثارت قلق البعض بشأن ضياع بعض مميزات التقاعد، ولكن قد يكون من الصعب الإنكار أن النسبة الأكبر من المتقاعدين هم من قطاع التربية، ولولا هذا لما تلقى المتقاعدون اتصالات تطلب الاجتماع بهم لمحاولة ثنيهم عن التقاعد، وهذا لم يحصل على حد علمنا في الوزارات الأخرى، كما أن خطوة الوزارة بتعميم استمارات على الوزارات الحكومية لمن يريد شغل وظيفة "معلم" هي خطوة لافتة أيضاً، وتبين حجم الاستقالات غير المسبوقة، والذي لم تشهده وزارات أخرى. كما أنني شخصياً عندما قمت بالذهاب الى مبنى التأمينات (وهذا قبل سنوات) لشراء عدد من السنوات، استقبلتني الموظفة هناك بابتسامة، وأخبرتني أنه من المؤكد أنك تعمل في وزارة التربية وأخبرتني أن أكثر من يأتي لشراء السنوات هم من المعلمين.
يوسف