حادثة في السوق المسقوف
قصة قصيرة - خليل إبراهيم المرخي
يقعُ السوق الشعبي المسقوف في المنطقة القديمة من المدينة ، فيهِ تجدُ كلَّ ما تريد وبأنسب الأسعارِ ـ غالبًا ـ ؛ لذا يرتادهُ خلقٌ كثيرٌ على اختلافِ طبقاتهم الاجتماعية.
في كلِّ زاويةٍ من زوايا السوق بائعٌ أو عاملٌ يعرضُ خدماتهِ ، وبعضهم يلاحقُكَ إلى أن ييأس فيقصدَ زائرًا آخر علّه يحظى منهُ بشيء.
عند أحدِ مداخلِ السوقِ يجلسُ فتًى في نحو الثانية عشرة من عمرهِ يرتدي ملابسَ رثّةً وبينَ يديهِ عدّةٌ متهالكةٌ لتنظيفِ الأحذيةِ. ربّما يحصلُ على كلِّ فردتي حذاء يلمعهما لزبونٍ بضعةَ قروشٍ أظنُّ أنها رافدُ حياةِ الكفاف لعائلتهِ.
دخلتُ السوقَ من بوابتهِ هذهِ كي أشتري لابنتي التي نستضيفها أيامًا ـ قبل أن تعاود السفر لإكمال دراستها ـ حليةً فضيّة أرسلتْ صورتها لي عبر الهاتف.
معَ خطوتي الأولى تعثرتُ أمامَ البوابةِ وكادَ وجهي يلامس الأرضَ، ربّما لأنّي حاولتُ الفرار من إلحاحِ الصبي ملمِّعِ الأحذية. تشذَّبتْ أطرافُ كفّيَّ قليلاً، وانثقبَ بنطالي عند الركبة فساهمَ ذلكَ في ظهورِ الاستياءِ على ملامحي، وإذا أضفتَ حرارة الجو، وازدحام المكان، والضوضاء، وبعض الروائحِ الكريهةِ المختلطةِ بأخرى مناقضةٍ لها، وملاحقةَ أصحاب المحلاتِ بأبصارهم أو نداءاتهم يدعونكَ للشراء؛ حينها قد تعذرني على انزعاجي.
أخذتُ أسيرُ على غير ارتياحٍ وبصري يتفحَّص لافتات المحلات باحثًا عن مقصدي فرأيتُ كلَّ شيءٍ إلا ما أريد: محلات العطارة، والخياطين، وصانعي الحلوى، وشرفات بيع العصير المثلج، وبعض المقاهي الشعبية، ومتجولينَ يبيعونَ لعب أطفال، أو بطاقات يانصيب، أو الحبوب المملحة وغير ذلكَ الكثير.
رأيتُ أنه من الأجدر أنْ أسترجعَ بعضَ الهدوء المفقود فقصدتُ مقهى شعبيًّا وجلستُ على طاولةٍ منفردةٍ خارجهُ وطلبتُ كأسَ ماءٍ وكوب شاي. ليسَ الشايُ خيارًا مناسبًا في مثل هذا الجو الحار لكنَّ مقتضياتِ الجلوس في المقهى تفرضُ هذا الطلبَ. وقبلَ أن يأتي عامل المقهى بما طلبتهُ رأيتُ صدفةً أنّي أجلسُ قبالَ محل الفضياتِ الذي أبحثُ عنهُ فتركتُ مجلسي في المقهى ودخلتُ المحل.
أريتُ صاحبَ المحل صورةَ الحليةِ المطلوبةِ فأخرجها وعلمتُ منهُ أنَّ سعرها بضعَ عشراتٍ من الدنانير. مددتُ يدي إلى جيبي لأستخرجَ النقودَ فتفاجأت أنَّ المحفظة مفقودة. اضطربتُ كثيرًا؛ لأني شعرتُ بالحرج من البائع؛ ولأني ـ وهو الأهم ـ أضعُ في المحفظة كل نقودي وبعض البطاقات المهمة.
لم أشك أنَّ يدًا خفيفةً مُدّت في جيبي واختلست منه المحفظة، وإذا كان كذلكَ فأنى لي باسترجاعِ ما فقدتُ؟ إنّه مأزق حقيقي. فكّرتُ أنْ أعتذرَ لصاحب المحل، وإذا بي أستشعرُ تربيتًا على ظهري برفق. نظرتُ خلفي فإذا هو الصبي ملمّع الأحذية الذي تسبب في انزعاجي منذ أن دخلتُ السوق، فصرختُ بوجهه: ماذا تريدُ ؟! اغرُبْ عن وجهي، فلا أرغب أنْ تلمِّعَ حذائي.
رمقني الصبي بابتسامة بريئةٍ ومدَّ يدهُ المتسخة وأعطاني محفظتي.
ـ لقد وقعتْ منكَ عندما تعثرتَ أمام بوابة السوق. وقد ناديتُك فلم تسمع، ولم أستطعْ اللحاق بكَ إلا هنا.
أعطاني المحفظة وانصرف، لكنَّ عيني لم تنصرف عنه وهو يغيبُ وسط الزحام.