الصفار: أمّ المؤمنين خديجة مثلٌ أعلى
الوسط - المحرر الدولي
لأمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد فضل عظيم وحقٌّ كبير على كلّ مسلم يعتزّ بدينه؛ لدورها الكبير والأساس في نصرة هذا الدين، وفي بدايته الحرجة. هذه المرأة يجب الاحتفاء بها، ويجب أن تجلى شخصيتها كقدوة وكمثل أعلى للنساء، إنها امرأة لم تقبل لنفسها أن تكون في الهامش، وإنما أخذت موقعًا في مجتمعها، وكان لها تأثير على مسيرة التاريخ.
كانت خديجة (ع) تحترف التجارة، وقد كونت من هذه التجارة الواسعة ثروة عظيمة، وامتدت تجارتها إلى الشام حيث كان النبي (ص) أحد المسافرين ضمن نشاطها التجاري إلى بلاد الأمّ. إن إدارتها لهذا التجارة الواسعة، وخاصة في ذلك الوقت، تكشف عن نفسية تمتلك مواصفات إدارية، وفهمًا للواقع العام في المجتمع. إضافة إلى ذلك، أنها اكتشفت مبكرًا الشخصية العظيمة لرسول الله (ص) بنباهتها وبإدراكها. عرفت أن هذا الشخص ليس عاديًّا، وأنه متميز في سلوكه وأخلاقه وحركته، لذلك هي من خطبته لنفسها كما ورد في التاريخ. ولا ينسى لها الإسلام ورسوله موقفها في تصديق رسول الله (ص) وشدّ عزيمته، حينما حدثها (ص) عن بداية نزول الوحي، وكان يعيش الرهبة لذلك الموقف، قالت له: «كلّا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتُقري الضيف وتُعين على النوائب»[ صحيح البخاري. ج1، ص6، حديث3] ، اكتشفت هذه الأخلاق المهمة في شخصية رسول الله (ص)، واستنتجت منها أن شخصًا يحمل هذه الأخلاق، ويجسّد هذه القيم، لا يخزيه الله، ولا يسير في طريق الضلال أبدًا، لذلك سارعت وبادرت إلى التصديق به وبنبوته، فكانت أول من أسلم من النساء.
خديجة القدوة
خديجة قدوة في تكريس الحياة لخدمة الأهداف السامية. فهي لم تنشغل بما انشغلت به بقية النساء من اللهو والزينة والمكاسب الوقتية الآنية، وإنما وظفت ثروتها ومكانتها الاجتماعية في خدمة الرسالة والمبدأ، أعلنت أن كلّ ما تملك من عبيد وخدم ومال تحت تصرف رسول الله (ص).
قريش لم تكن راضية ومرتاحة لانطلاق دعوة الإسلام؛ لذلك اتخذوا موقفًا من النبي وممن سانده، فخديجة تلك المرأة المحترمة المقدرة في المجتمع، نالها الحصار وقوطعت، حتى إنّ بعض الروايات التاريخية تتحدث أنها عند ولادتها لم يحضرها أحد من النساء؛ لأنها كانت مقاطعة من قبل نساء مجتمعها، بعد أن كانت لها مكانة في أوساطهن! كلّ ذلك لأنها أيدّت ودعمت رسول الله (ص)، وكانت تمثل السند النفسي الكبير للنبي (ص)، قال ابن إسحاق: كانت خديجة أول من آمنت بالله وبرسوله، وصدقت ما جاء من عند الله عزّ وجلّ، ووازرته على أمره، فخففت بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه، وتكذيب له ويحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها. إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدق قوله وتهوّن عليه أمر الناس[سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي، ج 2، ص 300.].
جدير بالمرأة المسلمة أن تتخذ من خديجة قدوة في مساندة الزوج. الذي يكافح في دروب الحياة ويواجه المشاكل، فيحتاج من الزوجة أن تقوم بدور الداعم له في مواجهة الآلام والمشاكل. في بعض الأحيان، حينما لا تكون الزوجة واعية، فإنها تضيف إلى زوجها آلامًا بطريقتها السلبية في التعامل. على الزوجة أن تدرك أن زوجها وهو يقبل إلى البيت بعد كدحه اليومي، يحتاج إلى دعمها ومساندتها، فعليها أن تستقبله بما يخفف عنه تلك المعاناة، وبما يريحه نفسيًّا وخاصة إذا كان يحمل همًّا رساليًّا اجتماعيًّا. أمّ المؤمنين خديجة كانت تقوم بهذا الدور لرسول الله (ص)، فهي اكتشفت عظمته، ووضعت كلّ إمكاناتها المادية والاجتماعية في دعمه ماديًّا ونفسيًّا، ويمكننا أن ندرك أهمية دورها، إذا عرفنا الفراغ الذي تركته في حياة رسول الله (ص) بعد وفاتها، حيث تألم وتأثر كثيرًا لفقدها الذي جاء في نفس العام الذي توفي فيه عمّه الرؤف المدافع عنه أبو طالب (ع)، حتى أطلق رسول الله (ص) على ذلك العام عام الحزن.
في قلب رسول الله (ص)
لكلّ ذلك فإن رسول الله (ص) عرف لخديجة هذا القدر والمكانة، وتحدّث عنها في أكثر من حديث ومورد، حتى يبين مكانتها للأجيال المقبلة من أبناء الأمة، ولتكون أنموذجًا يقتدى به في مسيرة الحياة.
إنّ الزوج إذا منحه الله زوجة صالحة وفية كما هو شأن غالب الزوجات، فتلك نعمة عظيمة؛ لأنها تنجب للإنسان ذريته وأبناءه، وتتحمّل عناء الحمل والولادة ومخاطرها، وأعباء التربية وأتعابها، كما أنها الستر عليه كما يقول تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
النبي (ص) كان يتحدث كثيرًا عن مكانة خديجة وفضلها، حتى إنّ بعض نسائه غرن منها، ماتت خديجة لكن ذكرها كان حيًّا في قلب رسول الله (ص). تقول عائشة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ حَتَّى يَذْكُرَ خَدِيجَةَ فَيُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَيْهَا ، فَذَكَرَهَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ فَأَدْرَكَتْنِي الْغَيْرَةُ ، فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ إِلا عَجُوزًا فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَغَضِبَ حَتَّى اهْتَزَّ مُقَدَّمُ شَعْرِهِ مِنَ الْغَضَبِ ، ثُمَّ قَالَ: «لا وَاللَّهِ، مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي فِي مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا أَوْلادًا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لا أَذْكُرُهَا بِسَيِّئَةٍ أَبَدًا[الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص1824، حديث357]. وفي نصٍّ آخر تقول عائشة: «ما غِرتُ على أحدٍ من نساءِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما غِرتُ على خديجةَ، وما رأيْتُها، ولكن كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثرُ ذِكرَها»[ صحيح البخاري، ص492، حديث3818].
ومن عرفان رسول الله (ص) لخديجة، أنه كان حينما يذبح الشاة يسأل عن صديقات خديجة فيهديها لهنّ وفاءً لخديجة. وقد ورد أنه «أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، هذه خديجةُ قد أَتَتْ، معها إناءٌ فيه إِدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ، فإذا هي أَتَتْكَ فاقَرِأْ عليها السلامَ مِن ربِّها ومنِّي، وبِشِّرْهَا ببيتٍ في الجنةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبٌ فيه ولا نصبٌ»[ صحيح البخاري، ص493، حديث3820].
هكذا كانت أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد سلام الله عليها ورزقنا شفاعتها وثبتنا على محبتها ومحبة ذريتها، وبها ينبغي أن تقتدي كلّ فتاة وامرأة مسلمة.