القصة الفائزة بالجائزة الأولى عن فئة الكتَّاب العرب
هذيان
قصة قصيرة - محمد حسن عبدالله (السودان)
الحياة الزاهية التي حلمت بها لن تنالها أبداً، ذلك ما جال بفكرك وأنت تلعق قلمك ساهماً في اللاشيء بغرفة الطوارئ تلك، أتتك الممرضة تستفهمك عن أمر يخص مريضاً ما، تجيبها بنصف انتباه ويعود القلم إلى فمك.
قبل أن تلتحق بهذا المشفى الحكومي الطرفي كنت تضع أحلاماً أفلاطونية عن الواقع، ومنذ أول يوم لك هنا وأنت تصطدم كثور هائج بحائط إسمنتي يسمى نقص الكوادر... نقص الأدوية... انقطاع الكهرباء وكثرة المرضى وفقرهم المتوارث.
تتحسس جيب بنطالك متفقداً الأوراق النقدية القليلة، هي كل ما تبقى من راتبك الزهيد والشهر لمَّا ينتصف، تعود بظهرك على المقعد فيذكرك الفراغ العريض ألاّ مسند له، مكسور ككل شيء هنا، مكسور كقلبك، من هم أقدم منك بشَّروك أنك ستتعوّد وستتبلّد.
تفيق على صياح الطفلة المسجَّاة على أحد الأسرَّة، تنهض مسرعاً إليها، تهدهدها، لست طبيبا فقط، أنت تقوم بوظائف جانبية لم تخطر على بالك، أنت والد وأم، ممرض وإداري، حمّال ونجّار وحدّاد، وعند الضرورة تصير كيس ملاكمة يتدرب عليه غضب مرافقي المرضى. الطفلة التي يهدأ نحيبها ليست ولست غريباً عنها... هذه ثالث مرة تراها، رقدت وترقد بمرض نقص التغذية، هل ظننت أن هذا المرض ما زال يعشش في مكان بالعالم؟!... أرسلت والدتها لتجلب دواء، من نظرة عينيها علمت أنها لا تملك ثمنه، نفدت نقودها بعد أول وصفة طبية، ولا شيء مجاناً هنا، تستأذن زميلك لتبحث عنها فقد تأخرت.
تذهب إلى الصيدلية والكافيتريا ولا أثر لها، ثم تلمحها خارج سياج المشفى تتحدث إلى صاحب الصيدلية الاستثمارية، لا تراها جيداً في الظلمة لكنك تحسب أنها تتوسل لتستدين الدواء... تعلم الخطوة المقبلة قبل أن تحدث، كلكم تعلمون، وهو يدري أنكم تعلمون ويتباهى بذلك... تتلفت الأم في وجل وبخطوات متعثرة تلحق بالرجل إلى الداخل والباب الزجاجي المعتم يغلق خلفهما... تركل حجراً وتقف لهنيهة منتظراً قطرة شجاعة تسقط على رأسك لتدك عنق الرجل... تعود أدراجك وتباشر مرضاك.
تهرع الأم إليك حاملة الدواء، تتحاشى النظر إلى اضطرابها وبقايا الدمع الصريح على خديها، تجز على أسنانك وتعود لتلعق قلمك.