الموصل مابعد "داعش": استراتيجية إقليم كردستان
الوسط -المحرر السياسي
لايزال تحرير الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، يمثّل أولوية قصوى بالنسبة إلى معظم الأطراف الفاعلة المشاركة في الحملة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية. وتُعدّ حكومة إقليم كردستان وقوات البشمركة التابعة لها حليفاً رئيساً في هذه المعركة. ومن المُستبعد أن ترسل حكومة إقليم كردستان وحدات البشمركة إلى الموصل نفسها، لأنها مدينة ذات أغلبية سنّية لاتطالب بها القيادة الكردية ولا تنافس عليها كي تكون جزءاً من أراضيها - وهذا شرط أساسي لانخراط البشمركة المباشر في المعركة. عوضاً عن ذلك، يتم التركيز على تهيئة الأرضية السياسية في الموصل لمرحلة مابعد إطاحة بداعش، وذلك وفق ما نقل مركز كارنيغي الشرق الأوسط اليوم الإثنين (22 مايو / أيار2016).
وتحسّباً لحدوث فراغ السلطة في الموصل في نهاية المطاف، بدأت حكومة إقليم كردستان بالتخطيط لما سيحدث بعد ذلك في هذه المدينة التي تقع على بعد ساعةٍ واحدة في السيارة من أربيل، عاصمة الإقليم. وبالتالي، وضع الأكراد نُصبَ أعينهم أولوياتٍ ثلاث:
منصور باحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حائز على منحة العريان، تتركّز أبحاثه على العراق، وإيران، والشؤون الكردية.
أولاً، لايريد الأكراد أن يبقى تنظيم الدولة الإسلامية على مسافة قريبة من إقليم كردستان بأي شكل من الأشكال. وهذا لايشي فقط بالحاجة إلى إلحاق الهزيمة بالتنظيم وحسب، بل أيضاً بضرورة ضمان ألا يظهر مجدّداً بشكل يطرح تهديداً.
ثانياً، لايريد الأكراد أن تستغل الحكومة المركزية العراقية، ولاسيما الجماعات شبه العسكرية الشيعية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، استعادة الموصل لإعادة فرض سلطة بغداد في الإقليم. وكما أوضح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مراراً، تشكّل قوات الحشد الشعبي جزءاً من الدولة، التي تدفع رواتب أعضائها وتنسّق عسكرياً مع قادتها.
ثالثاً، لايريد الأكراد أن تضم الحكومة المحلّية المقبلة في الموصل عراقيين سنّة لايكنّون ودّاً للأكراد، كالبعثيين السابقين. الهدف الرئيس للأكراد هو وجود حلفاء لهم في المدينة من شأنهم دعم سياسات حكومة إقليم كردستان التي تم التفاوض بشأنها مع الحكومة المركزية. وقد تمحورت هذه السياسات عموماً حول تعزيز الحكم الذاتي للأقاليم والمحافظات والحصول على حصة أكبر من الدخل القومي.
غير أن دلالات ماسيحدث في الموصل في خاتمة المطاف لن تقتصر على الموصل وحسب. فقد يكون ذلك، بالنسبة إلى الأكراد على وجه الخصوص، بمثابة الاختبار النهائي لمدى قدرة العراق على إدارة مجتمعاته المحلّية بتنوّعاتها الطائفية والعرقية بصورة فعّالة، وأداء وظائفه باعتباره دولة فيدرالية واحدة. إذاً، الأكراد يخطّطون للمستقبل من الآن.
التعاون مع الجوار
ستتطلّب مسألة منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية بعد هزيمته في الموصل، التعاون مع القوى القبلية والمحلّية والدول المجاورة التي تملك القدرة العسكرية اللازمة للحفاظ على السيطرة على المدينة والمناطق المحيطة بها.
أكّد سعدي بيرا، مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لكاتب المقال أن حزبه (وهو جزء من الائتلاف الحاكم في حكومة إقليم كردستان) يتمتّع بعلاقات جيدة مع العديد من هذه القبائل. وأدرج في هذه القائمة قبائل شمَّر وطائي والجْبُور والحديد، وهي كلّها شريكة أساسية في تحرير المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية.1
يتعاون الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم أيضاً مع القوى القبلية العربية السنّية. على سبيل المثال، قاتل الحزب الديمقراطي الكردستاني وأفراد من قبيلة شمر جنباً إلى جنب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في ربيعة في تشرين الأول/أكتوبر 2014، وأجبروه على الانسحاب من هذه البلدة الحدودية. ويشمل التعاون بين الطرفين أيضاً التدريب العسكري. قال هيمن هورامي، مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الكردستاني، لكاتب المقال إن وحدات البشمركة التابعة لحزبه وفّرت معسكرَي تدريب، في بلدتَي نواران ومخمور، لمساعدة القوى السنّية في الاستعداد للقتال.2
كما تتعاون قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني مع قوى شبه عسكرية تابعة لتركيا، وتربطها بها علاقات اقتصادية وأمنية قوية، من ضمنها "قوات الحشد الوطني" بزعامة أثيل النجيفي، محافظ نينوى السابق، الذي يعيش في أربيل منذ نزوحه من الموصل في صيف العام 2014. وقال النجيفي لكاتب المقال إن قواته تضم حوالى 4 آلاف مقاتل خارج الموصل وآلافاً آخرين داخل المدينة، وهم مستعدّون لإطلاق عمليات مقاومة.3
يحظى النجيفي، الذي كان شقيقه أسامة أحد نواب الرئيس العراقي حتى العام 2015، بدعم تركيا التي تعتزم أن تبقى مؤثّرة في الموصل بعد إخراج تنظيم الدولة الإسلامية منها. ووفقاً للتقارير، تم نشر حوالى 1200 من الجنود الأتراك، إضافةً إلى مئات المركبات العسكرية في العراق تمهيداً لتحرير المدينة. ويرغب الحزب الديمقراطي الكردستاني في التعاون مع النجيفي ليس لضمان إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، لكي تكون الأجهزة الأمنية في الموصل بعد ذلك وديّة تجاه حكومة إقليم كردستان.
إقصاء بغداد
يشكّل النفوذ السياسي والعسكري للحكومة المركزية في العراق عامل قلق آخر تريد قيادة إقليم كردستان إبعادَه عن حدودها. ولكي تتجنّب أي نوع من التدخل، ترغب حكومة إقليم كردستان في توسيع نطاق اللامركزية في دولة عراقية فيدرالية (إن لم تكن كونفدرالية). ومع أن القيادة الكردية تصرّح رسمياً أن على القادة المحلّيين في الموصل اتخاذ قرار بشأن نظام الحكم الذي يرغبون في اعتماده في مناطقهم، إلا أن الأكراد يفضّلون بالتأكيد نظاماً يحدّ من نفوذ بغداد بصورة كبيرة. وقد عبّر مسؤول في مجلس أمن إقليم كردستان عن هذا الموقف خير تعبير عندما قال لمجلة نيوزويك:
"لقد فشلت فكرة الحكومة المركزية في بغداد... الأكراد والسنة والشيعة لايثقون ببعضهم البعض، والطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها معالجة هذا الأمر تتمثّل في السماح للمناطق المحلّية والمحافظات بأن تنظّم شؤونها الخاصة".
ولتنفيذ هذه الأجندة، بعض الأكراد مستعدّون لدعم تغيير الوضع الإداري لمحافظة نينوى التي تقع فيها مدينة الموصل، من محافظة إلى إقليم. ووفقاً للمادة 115 من الدستور العراقي للعام 2005، يحقّ لكل محافظة أن تكوين إقليم بناءً على طلب موقّع من ثلث أعضاء مجلس المحافظة على الأقل أو من عُشْر الناخبين المسجّلين في المحافظة.
يتمتّع الإقليم بحكم ذاتي أكبر من المحافظة. إذ يجوز للإقليم ممارسة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وفقاً للدستور (باستثناء بعض السلطات التي تخضع حصراً إلى سلطة الحكومة المركزية). الأهم من ذلك أنه يجوز للأقاليم تعديل التشريعات الاتحادية إذا تعارضت مع القوانين الإقليمية.
حتى الآن، حكومة إقليم كردستان هي الوحيدة التي أصبحت إقليماً. حاولت محافظات أخرى مثل ديالى أو البصرة القيام بذلك، لكنها فشلت بسبب تدخّل الحكومة المركزية عندما كان نوري المالكي رئيساً للوزراء. فقد استخدم المالكي نفوذه على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات (التي تتمتع بسلطة خاصة لإدارة الاستفتاءات والإشراف عليها بشأن إنشاء الأقاليم) للاعتراض على هذه المحاولات. وبالنسبة إلى الأكراد، أكّد رفض بغداد منح وضع الإقليم إلى المحافظات التي استوفت الشروط الدستورية لذلك، شكوكهم حول طبيعة النظام الفيدرالي العراقي اليوم.
ويبدو أن معظم الزعماء العرب السنّة يتبنّون فكرة نقل السلطة بعيداً عن بغداد أيضاً. وحتى الزعماء العرب السنّة الذين عارضوا الفيدرالية في السنوات الأولى بعد الغزو الأميركي، باتوا الآن يعتبرونها النظام السياسي الأفضل للعراق. ويعتقد أحمد كاني، وهو عضو في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس مكتب العلاقات الوطنية في الحزب، أيضاً أن السنّة بدأوا يدركون أخيراً أن وجود نظام سياسي أكثر لامركزية هو الأفضل لقضيتهم.
وفي إحدى الحالات المبالَغ فيها، دعا مضر شوكت، الذي شكّل في العام 2015 ائتلافاً سياسيّاً يحمل اسم "جبهة الخلاص الوطني"، إلى إقامة حكومة إقليمية سنّية على غرار حكومة إقليم كردستان، تتألف من محافظات عدّة. وقد ذكر لكاتب المقال أن إقليم كردستان يدعم هذه الخطوة "إدراكاً منه أنه أيضاً في خطر، وخائف ممّا سيحدث إذا تراجعت القوى السنّية" في مواجهة القوات شبه العسكرية الشيعية المرتبطة ببغداد.4
يفضّل زعماء عرب سنّة آخرون، من أمثال الأخوين النجيفي، عدم تكوين إقليم سنّي واسع، بل يحبّذون الالتزام بالأحكام الدستورية وتشكيل أقاليم على أساس محافظات فردية، يضم بعضها خليطاً سكانياً من أعراق وأديان مختلفة.
مع ذلك، فإن تجربة السنّة خلال فترة حكم المالكي دفعتهم إلى الاستنتاج بأن القيادة التي يهيمن عليها الشيعة في الحكومة المركزية ستعارض على الأرجح أي عملية تسير في اتجاه اللامركزية.
في غضون ذلك، تحتاج القيادات الكردية أيضاً إلى الحدّ من النفوذ العسكري للحكومة المركزية على طول حدود إقليم كردستان ونينوى. ويعتقد الأكراد أن إحدى وسائل تحقيق ذلك هي إقامة منطقة عازلة يحرسها حلفاؤهم من العرب السنّة، وتسهم في تحييد التهديدات المحتملة التي يطرحها الحشد الشعبي. ويخشى الأكراد من أن تحصل الوحدات شبه العسكرية الشيعية على موطئ قدم بالقرب من المناطق الكردية، ماسيؤدي إلى حدوث اشتباكات مع مجموعات البشمركة. وقد حصل هذا بالفعل مرّات عدّة، على سبيل المثال في نيسان/أبريل 2016 في مدينة طوز خورماتو. كما يخشون كذلك من إمكانية أن يثير وجود الحشد الشعبي مشاعر مؤيّدة لتنظيم الدولة إسلامية في الموصل وفي المنطقة بأسرها. لهذا السبب تولي أربيل اهتمامها إلى دعم القوات المحلّية لتنظيم المناطق المحرّرة، بهدف منع دخول الجماعات التي ستناصب حتماً المجتمعات المحلّية السنّية العداء.
الحرص على موالاة السنّة لحكومة إقليم كردستان
يرمي الهدف الآخر لحكومة إقليم كردستان إلى ضمان أن تكون النخبة السياسية المقبلة في الموصل وسائر المناطق العربية السنّية التي يتم تطهيرها من تنظيم داعش، ودّية تجاه الأكراد.
بالنسبة إلى المسؤولين في إقليم كردستان، يحظى وجود علاقات ودّية مع العرب السنّة بأهمية استراتيجية. فقيام تحالف بين الأكراد والسنّة، في الوقت الراهن، قد يكون بمثابة حجر الزاوية في تحالف سياسي يهدف إلى كبح جماح حكومة غير موثوق بها يهيمن عليها الشيعة في بغداد. على المستوى الوطني في العام 2012، على سبيل المثال، كانت الكتلة البرلمانية العلمانية بزعامة إياد علاوي، والتي مثّلت الكثير من العرب السنّة (على الرغم من أن علاوي نفسه شيعي) شريكاً أساسياً للأكراد في مسعاهم إلى إطاحة المالكي من خلال تقديم اقتراح بحجب الثقة في البرلمان. فشلت المحاولة، غير أن الواقعة أظهرت للأكراد ضرورة إيجاد حلفاء في البرلمان لمعارضة استئثار بغداد بالسلطة.
والواقع أن الأكراد والعرب السنّة عقدوا زواجاً ودّياً نوعاً ما قائماً على مصالحهم المشتركة إزاء تهديد بغداد الخارجي. وباعتبار الموصل مدينة متعدّدة الأعراق، تضمّ الحكومة المحلّية في المدينة ممثّلين عن الأكراد. فبشار كيكي، رئيس مجلس محافظة نينوى، كردي مثلاً. ووفقاً لكيكي، يرتبط إقليم كردستان بعلاقات قوية جدّاً مع مجلسه، وسوف يتواصل التنسيق بين الجانبين.5
الموصل مدينة عربية سنّية أساساً، وقد شكّلت قيادة حكومة إقليم كردستان شبكة من الحلفاء العرب السنّة من المدينة، وكانت لبعضهم علاقات مع حكومة الإقليم قبل أن يستولي عليها تنظيم داعش وقد تحسّنت العلاقات بين الأكراد والعرب السنّة في أعقاب نزوح الكثير من القيادات العربية السنّية بعد انتصار تنظيم داعش وآثر الكثير من هؤلاء الأشخاص - من مسؤولين سابقين وشيوخ قبائل وشخصيات دينية - الانتقال إلى إقليم كردستان الذي يشهد استقراراً نسبيّاً، على النزوح إلى بغداد غير المستقرّة والتي يهيمن عليها الشيعة.
اكتسبت حكومة إقليم كردستان نفوذاً كبيراً من خلال توفير ملجأ لزعماء عرب سنّة، واغتنمت محنتهم للتأكيد على أن الحكومة المركزية العراقية فشلت في تمثيل السكان العرب السنّة على نحو صحيح. فمن خلال تشويه سمعة السلطات في بغداد، يسهّل الأكراد عملية إبقائها بعيدة عن الموصل، ويعملون في الوقت نفسه على توطيد علاقاتهم مع العرب السنّة في العراق وزعمائهم، الذين يأمل الأكراد في أن يساعدوهم على إشراكهم في السلطة في المدينة. وهذا سيسمح للأكراد بأن يقدّموا مشروعهم لإقامة منطقة عازلة بين إقليم كردستان والمناطق العربية التي يُحتمل ألا تكون مستقرة في شمال العراق، وخاصة إذا ظهر تنظيم داعش مجدّداً في هذه المناطق.
ذكر مسؤول من مكتب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان لكاتب المقال أن الدعم الكردي يشمل توفير الأمن الشخصي ومبادرات التمويل لزعماء مختارين من العرب السنّة.6 وقد تم عرض توفير حارس شخصي ومسكن آمن على العديد من النازحين من الساسة العرب السنّة والشيوخ ورجال الدين، من بين خدمات أخرى. وكلما كانت العلاقة معهم أقوى، كلما زادت المساعدات التي تقدّمها لهم حكومة إقليم كردستان.
أحد أقوى الحلفاء السنّة لحكومة إقليم كردستان هو مثال الألوسي، الذي كان عضواً في البرلمان العراقي حتى العام 2010. يعيش الألوسي في إقليم كردستان منذ العام 2011، عندما أرغمته تهديدات تنظيم القاعدة والقوات شبه العسكرية الشيعية على اللجوء إلى هناك. وكان رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني قد عرض في السابق توفير حماية أمنية للألوسي، وسيواصل دعمه على المستوى الوطني. ومع أن القيادة الكردية ستتجنّب التأثير على ممثّلي السنًة علناً، إلا أن الألوسي شخصٌ تريده أن يؤدّي دوراً بارزاً في بغداد من خلال دعم الأهداف المشتركة للعرب السنّة والأكراد.
يُعدّ مضر شوكت أيضاً حليفاً آخر من العرب السنّة للأكراد. فقد أعلن بشكلٍ واضح عن تشكيل جبهة الخلاص الوطني في فندق أربيل الدولي بحضور كبار القادة الأكراد، بمن فيهم أحمد كاني. وقال شوكت إن "الحزب الديمقراطي الكردستاني يريد قيادة [في الموصل] يمكنه عقد شراكات معها"، وهو يتشارك مع الأكراد علاقة وثيقة بالولايات المتحدة، مايمثّل أولوية لحكومة إقليم كردستان.7
لكن مايعقّد الوضع هو أن العلاقات الكردية-العربية في الموصل كانت متوتّرة حتى فترة قريبة. فخلال انتخابات مجالس المحافظات العراقية للعام 2009، تَنافس أثيل النجيفي مع الأحزاب الكردية في نينوى، ودعا إلى الانسحاب الكامل وغير المشروط للقوات الكردية من المحافظة. والمثير في الأمر أنه كان يحظى آنذاك بدعم الحكومة المركزية.
على الرغم من التقارب الحاصل اليوم بين القادة العرب السنّة الذين يتحدّرون من الموصل والأكراد، لايزال الاحتمال قائماً بتدهور العلاقات بين الطرفين. في الوقت الراهن لديهم مصالح مشتركة، فهم يواجهون عدوّين مشتركين: تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات شبه العسكرية الشيعية. ويُرجّح أن يتواصل تعاونهم ما دامت هذه التهديدات تلوح في الأفق.
خلق الفرص لمستقبل العراق
لايزال تحرير الموصل حلماً بعيد المنال في الوقت الحاضر. إذ يتفق الزعماء الأكراد والعرب السنّة على أن طرد تنظيم داعش لن يتطلّب القوة العسكرية وحسب، بل أيضاً إطلاق مبادرة سياسية يمكنها استعادة تأييد السنّة المحرومين الذين تتراوح مواقفهم راهناً بين دعم داعش في مناطقهم أو عدم المبالاة بها. وبهدف تخطّي أزمة التمثيل السنّي، يصرّ بعض المسؤولين الأكراد والعرب السنّة على ضرورة تقليص الدور الذي تضطلع به بغداد، ولاسيما من خلال الجماعات شبه العسكرية التي ترعاها، في الموصل والمناطق الأخرى ذات الأغلبية السنّية حيث لايزال تنظيم داعش نشطاً.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي تقود الجهود الدولية الرامية إلى استعادة الموصل، يشير دعم قوات البشمركة في إقليم كردستان إلى أهمية الدور الذي سيؤدّيه الأكراد في تحديد النتيجة التي يمكن أن تعزّز المكاسب التي يتم تحقيقها ضدّ تنظيم داعش وقد بدا ذلك جليّاً عندما أعلن وزير الدفاع الاميركي أشتون كارتر في أبريل/ نيسان 2016 تقديم دفعة مالية مباشرة بقيمة 415 مليون دولار لوحدات البشمركة، مايشكّل التفافاً على الحكومة المركزية العراقية. وستكون لهذه الخطوة غير المسبوقة انعكاسات على شرعية الأطراف الفاعلة غير التابعة للدولة في العراق، وربما على التركيبة السياسية للبلاد في نهاية المطاف. والواقع أن هذا النهج قد يمتدّ ليشمل الزعماء المحليين في الموصل، فيما تبتعد الأطراف الفاعلة الدولية عن المركزية الدوغمائية للدولة في تفاعلها مع العراق.
إذا كان الشغل الشاغل هو ضمان ألا يعود تنظيم داعش إلى الظهور بعد إطاحته مستقبلاً - إما في شكله الحالي أو تحت مسمّى آخر - فمن الأهمية بمكان بالنسبة إلى الحكومة المركزية العراقية استيعاب سكان نينوى، بما في ذلك القبائل المحلية، من خلال تزويدهم بالوسائل المالية اللازمة للتنمية الاقتصادية. من شأن ذلك أن يعمل على إقامة حواجز ضد عودة تنظيم الدولة الإسلامية، لأن مجالس المحافظات والقبائل تستفيد من عائدات كافية تسمح لها بإدارة شؤونها الخاصة. إذ لايمكن الرجوع إلى سياسة المالكي التي تمثّلت بفرض السلطة المركزية وتهميش السنّة، ماسهّل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في الأصل.
لكن الأهم هو أن استعادة الموصل ستعيد فتح النقاش المثير للجدل حول مستقبل العراق. لذا، يسعى الأكراد الآن إلى إرساء الأسس التي تكفل انتصار رؤيتهم، إلا أن ذلك لن يمرّ من دون عواقب. فمع أن الأكراد والعرب السنّة قد يتّفقون على تأثير بغداد السيّء، بيد أنهم يختلفون حول ما إذا ينبغي أن يبقى العراق دولة واحدة – ولاسيما في ظل غياب الرؤية الموحّدة حتى في صفوف العرب السنّة أنفسهم بشأن الدولة التي إليها يتوقون.
قد يشكّل تحرير مدينة الموصل منعطفاً حاسماً للدولة العراقية التي لم تتوصّل بعد إلى صياغة ترتيب سياسي وطني توافقي كفيلٍ بإرضاء طوائفها كافة.
أُعدّت هذه الدراسة في إطار مشروع "حوكمة التنوّع: إطلالة على الشعبين الكردي والأمازيغي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.