قصة قصيرة... كذبة بيضاء
قصة قصيرة - جابر علي سلمان
لم أشعر بالألفة وأنا أخطو في هذا الممر إلى مكتبي الخاص! الممر ضيّق نسبياً والأعين تراقبني عن قرب وتتفحّصني.. كنت أتمنى لو لم يوجد هذا الممر الذي يقع على أحد جوانبه خمسة مكاتب للزملاء (المفترضين)! بلى الأمر جد طبيعي، ولكن لن يكون كذلك لمن هو مثلي قد وَخَطَ الشيبُ رأسه وبانت عليه أمارات الكبر، وقد وضع نظارة سميكة على عينيه... لستُ أتكئ على عصا وأمشي محني الظهر ولكن أن تدخل شركة أنت أكبر الموظفين فيها سنًا بمن فيهم مدير الشركة فذلك مما يستدعي الحرج والارتباك كمن يبدأ فصول محو الأمية مع تلاميذ الابتدائي.
جلست محاولاً إخفاء أكبر جزء ممكن من وجهي خلف شاشة الحاسوب... المكتب جيد وتمّ تنظيفه للتو، أوراق... وأقلام جديدة ومفتاح جرس لمناداة الفراش وخزانة لطيفة، لم أكن أعلم بأهمية وظيفتي!
التفتُّ إلى كحّة أحدهم... حسناً، لابدّ أن الزملاء يتوقعون مني أن أكون رزيناً صامتاً في أغلب الأوقات أو الحديث عن هموم الأولاد وربما "الأحفاد" و "التقاعد"! ومع ذلك لن أتحدث لهم عن زوجتي الراقدة منذ شهر في المستشفى، تلك الأولى لأنني أيضاً لن أشير إلى أن لي زوجة ثانية لا تنتهي المشاكل بيننا وأن أولادها الأربعة لا يكفّون عن مطالبهم، لن أتحدّث عن ابنتي التي تخرّجت وتزوّجت وعملت في... لا أدري أين! ولم أرها منذ أشهر، أما ولدي الأكبر فهو على وشك الحصول على شهادةٍ ما! أما جاري الــ.. حسناً لن أتحدّث بأيّ من هذه الأمور!
أشعرني بالقلق وجود مكتب وكرسي فارغ على يميني، فأنا لا أريد أن يجاورني أحد من الموظفين الشباب فهم فضوليون ومُتطفّلون.
تمعّنت في المكتب لأرى ما يمكن أن يدل على شخصية زميلي... هناك إطار مائل على طرف المكتب تبدو فيه الصورة كخيال طفل صغير... إناء زهور صغير الحجم وروده جديدة، ساعة بإطار ذهبي على ثلاث قوائم موضوعة بعناية، كان لدي مثلها، كما أن الأقلام والملفات مرتبة بشكل ينمُّ عن اهتمام.
داخلتني بعض الراحة النفسية، فأنا أعرف أن المُنظَمين في حياتهم هم أقلّ الناس تطفلاً على حياة الآخرين وليس لديهم وقت للثرثرة ولغو الحديث! وقد هان الأمر بعض الشيء... وبما أنهم لم يعرفوا شيئاً عني بعد، فسأحاول أن أبدو مرحاً ومتفاعلاً معهم وأجاريهم في الأحاديث، ولا بأس أن أكذب كذبة... أو بعض الكذبات البيضاء، وأخفي عمري الحقيقي، وأدَّعي أن شيبي بسبب عامل وراثي! وسأستغني عن النظارة تلك بأخرى "مودرن" تتناسب وذوق الشباب!
ومادام هناك من بين الزملاء امرأة رمقتني بنظرة فيها بعض الاستلطاف فذلك سيُسهّل الأمر! ويمكن أن تكون الثالثة! ولا بأس أن ألبس الجينز والقميص المشجّر والملوّن! فالشباب شباب القلب والعمر يُقاس بالنشاط والحيوية!
سأحاول أن أصادق الزميل المرتقب على يساري... وسأجعله بوّابتي لهم لكي لا يتجاهلوني فأنا سأحتاج مساعدتهم لكي أبقى في هذا العمل، ومادام قصدي شريفاً فلا بأس من التجمّل ولو بالكذب الأبيض!
بينما كنت أهمّ بفتح جواير المكتب لأرى ما وضع لي فيها لاستخدامه... ناداني صوتٌ نسائي مألوف لدي.
- مرحبا بابا... هل أعجبك المكتب؟ أنا طلبتُ منهم أن يضعوهُ بجانب مكتبي!!