قصة قصيرة... تمتمة بين الشجر
قصة قصيرة - ميثم علي أحمد مسعود
الشمسُ ُتلقي بردائها الذهبيِّ على وَجهِ الطبيعةِ الراقدة، فيستفيقُ النهرُ شطرَ البساتينْ، وُمروجُ الرُبى تُصفقُّ مفتونةً كُلمَّا هبَّ عليها النسيم، وتلكُمُ الساقيةُ ُتدندنُ ُمترِّنحةً مع شحاريرِ الأغصان، وهي تتلوا على مَسمعِ الوُجودِ آياتِ الجَمالِ الأثيري.
صاحبُكم فلاحٌ يحرثُ صَدرَ الأرضِ، ويبذرُ الأُرزَ على سُفوحِ جبالها المُترامية، حتى إذا ما نَزلَ الظلامُ واتُخمتْ صَفحةُ السَماءِ من الحُمرةِ المُذهبّة، ارتحلَ صاحبُنا يقتفي أذيال قريته.
وقبيلَ أنْ تلامسَ خُيوط الشمسِ الناعمةِ مُحيَّا الوجودِ، فزَّ صاحبُنا الفلاحُ من كَراه، قاصداً بَيتَ قوتهِ ورزقهِ في تلكُمُ الحقولِ النائية.
الضبابُ كانَ جاثماً على صَدرِ المُروجِ في خشوعهِ العَميق... يتخطّى صاحبُنا الأشجارَ في مَهلٍ وسَكينة... وكعادتهِ في كُلِّ صباحٍ وقبلَ أن يَشرعَ في حَرثِ أرضهِ يترّنمُ بشيء منَ الشِعرِ "الموّشحاتِ الأندلسية" إلى ما شاء الله...
أوَّاهْ... أوّاهْ...!؟ وتناهتْ إلى مسامعِ الفّلاحِ تلكُمُ التأوّهاتْ، راحَ يتقصي خبرها، حتى استقرَّ بهِ المَقامُ على أطلال متردّيةٍ في جنباتها، تحوطُها أشجارُ العوسج، وتنعُبُ فوقَ أضلاعها غِربانٌ وبومْ.
مضى الهُوينى، يُقدمُ رجلاً ويؤخرُّ أُخرى، ليُشاهدَ بعينيهِ وهُوَ يغالبُ صَدمتهُ هيكلينِ عظميينِ وهُما في عِناقٍ مفجع!! وعلى رأسيهما طَيفٌ يُرفرفُ بشجوهِ وَهُوَ يُتمتمُ قائلاً: "نحن ُحُبٌّ أخلدَ للخُلود، نحنُ روحانِ يستحيلُ أن تفترقا، قد عانقنا أملَ الحياةِ، ونحنُ الآنَ نُعانقُ صَمتَ الموتْ!!، فقد تعاهدنا وغصنُ الزيتونِ بأيدينا، أنْ نموتَ معاً وأنْ نُعانقَ الموتَ معاً".
فما كان من صاحبنا الفلاحِّ إلاَّ وأنْ سَألَ ذلكُمُ الطيف المَكلومِ وفرائصهُ ترتعدُ خوفاً وقال: "ما الخبرْ أيتُها الروحُ المُتوهجةِ بالتأوهاتْ؟!، وكيفَ أُقصيُتم إلى هذا المكانِ المُوحِشِ حيثُ لا بَشر ولا أنفاس حياة!!
تبسَّم الطيفُ وَهوَ يُكفكفُ دموعَ الألمِ وقال: "آهٍ ثمَّ آهٍ أيهُّا الفلاحُّ المسكين! لو تعلمُ لو تدري، أنَّ نورَ الأرضِ لا ُيمحى بدياجيره، وأنَّ العِشقَ الذي يستوطنُ القُلوبَ لا تكتبهُ الأناملُ واليراعات، إنمَّا تكتُبهُ أنوارُ هذا الوجودِ، نقيّاً كنقاء شمسِ شهرِ نيسانَ الدافئةْ.
أيُهَّا الفلاحُّ عندما يكون الحُبُّ غريباً يُصبحُ منَ المحتومِ أن نُؤثِرَ العَيشَ بينَ تلك السواقي والأشجار!! تعانقنا نسماتُ الفجرِ الجميل، ونمعنُ خاشعينَ لأصداء العصافيرِ عندَّ الأصيل، بعيداً عن مُنغصاتِ حياةِ البشرِ وكل صراعاتِ بني الإنسان!
ولكنْ أيُهّا الفلاحُّ وبعدَ بُرهةٍ من الزمان، مَا ألفينا أنفُسنا إلاَّ ونحنُ في هذا المَكانِ السحيق، حيثُ سَكنُ الوحوشِ ومنازلُ الغُربان، بلا ماءٍ يروي عَطشنا ولا طعامٍ يسدُّ رَمَقنا!! وقضينا هاهُنا ميّتينِ ذاتَ صباحٍ، ذابلينِ كزهراتِ الخريفْ.
أسمعتَ أيُهَّا الفلاح؟!... ثم بكى صاحبُنا ُبكاءً شديداً وتأوَّه تأوَّه الثكلى، ومَضى في سبيلهِ وهُوَ يُتمتمُ قائلاً: "نحن حُبُّ أخلدَ للخلود، نحنُ روحانِ يستحيلُ أنْ تفترقا، قد عانقنا أملَ الحياةِ ونحنُ الآنَ نُعانقُ صَمتَ الموتِ بعيداً عن دُنيا البشر!، فقد تعاهدنا وغصنُ الزيتونِ في أيدينا أنْ نموتَ معاً وأن نعانقَ الموتَ معاً!!... وغابَ بين أشجارِ الصفصاف.