ستة وثلاثون عامًا من البحث لم تضع هباءً
جدة تعثر على حفيدها منذ عهد الديكتاتورية العسكرية بالأرجنتين
الوسط - محرر المنوعات
موسيقيٌ في السادسة والثلاثين من عمره، شاب شعره المجعّد قبل أوانه. يسير إجناسيو مونتويا كارلوتو في شوارع سان تيلمو القديمة بالعاصمة بيونس أيرس، يشير إلى كتفه الأيمن ويقول لنا مبتسمًا: “لقد بكت الأرجنتين بأكملها على هذا الكتف”. ليس هذا بتباهٍ، فمن المستحيل أن يعبر عدة مبانٍ دون أن يندفع شخص ما نحوه معانقًا إياه قبل أن ينفجر في البكاء. ولم لا؟! ولقد ظلت الأرجنتين بأكملها تصلّي لثلاثين عامًا كي يعثروا عليه من أجل جدته ، وذلك وفق ما نقل موقع " Open “
إستيلا كارلوتو وابنتها الحسناء لورا
“يوم أن أتممت الثمانين عامًا، توسلّت إلى الله ألا يدعني أموت قبل أن أعثر على حفيدي” تخبرنا بذلك إستيلا كارلوتو، التي حظت بحياة حافلة، تخطت بها مأساتها كي تصبح واحدة من أكثر الشخصيات حبًا واحترامًا في الأرجنين كلها. لكن أمنية إستيلا لم تتحقق قبل مرور أربعة أعوام.
إستيلا، المعلمة وربة المنزل، كانت قد بلغت السابعة والأربعين عام 1977 عندما اُختطفت ابنتها من شوارع مدينة لا بلاتا عن طريق فرق الموت المنتشرة آنذلك في الأرجنتين الديكتاتورية. لورا، التي كانت في الثانية والعشرين، من عمرها كانت إحدى آلاف المعارضين الذين اختفوا بفعل النظام الفاشي الدموي. لم تكن إستيلا على علم بأن ابنتها الحسناء كانت حاملًا في شهرها الثالث حين اختُطفت إلى أحد المعتقلات السرية، حيث قاموا أمام عينيها بقتل رفيقها ووالد طفلها، والمير مونتويا.
وُلد إجناسيو في يونيو من عام 1978 وأمه لازالت رهن الاعتقال، تشير بعض التقارير إلى أنها وضعت وليدها وهي مكبلة اليدين، قبل أن يُسمح لها أن يظل بين يديها لخمس ساعات فقط. بعد شهرين، أخرجوها من المعتقل لتلاقي مصير رفيقها، وحين تسلمت أمها الجثة، كانت مصابة بأعيرة نارية في البطن، بينما قد تهشم وجهها، على الأغلب، بمؤخرات البندقيات. حينئذ، حكى الناجون من المعتقل لإستيلا عن حمل ابنتها وإنجابها لصبي يحمل اسم أبيها، جويدو.
لم تكن تملك إستيلا سوى اسم حفيدها، جويدو، وتاريخ ميلاده التقريبي، لكنها كرست حياتها على مدار ستة وثلاثين عامًا لبحثٍ مضنٍ عنه، لم يقدها إلا لثلاثة عقود من إجراءات قانونية ضد رجال شرطة وجيش وأطباء متورطين في جريمة اختفاء حفيدها، ذلك الذي ابتلعه التواطؤ والصمت المحيط بأغلب الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام الديكتاتوري.
تبيّن لإستيلا أنها ليست وحيدة، وهنالك نساء أخريات يبحثن عن أحفادهن، أبناء بناتهن اللاتي اختطفن، فأسسن مجموعة “جدات ميدان مايو” التي سميت باسم الميدان المواجه لقصر الرئاسة بوسط مدينة بيونس أيرس، حيث تظاهرن لجذب الانتباه لقضيتهن، وبعد ذلك، اختيرت إستيلا قائدة للمجموعة قبل عام 1989. قدرت المجموعة بأن هنالك حوالي 500 طفل قد ولدوا في المعتقلات، تم تسليم أغلبهم إلى عائلات ضباط الجيش كي يتبنوهم.
وبينما تزحف إليهن الشيخوخة ببطء، أثمر جهد هؤلاء الجدات لثلاثة عقود متواصلة عن حل 113 قضية، وعلى الرغم من ذلك، لم يعد ابن لورا كارلوتو إلى أحضان جدته إستيلا بعد، تاركًا جرحًا لا يبرأ في نفس كل أرجنتيني.
تقول إستيلا “أنا امرأة مشهورة، كان الجميع يقابلونني ويسألونني متى سيحين دورك وتستعيدين حفيدك؟”.
أين كان حفيدها؟
كل ذلك الوقت، كان إجناسيو مونتويا كارلوتو يظن أنه إجناسيو هوربن، الابن الوحيد لريفيين متواضعين، يعملان بمزرعة يمتلكها فرانسوا أجيلار، شخصٌ محافظ توفي قبل عام. يقول إجناسيو: “كنت أشاهد التلفاز بجوار زوجتي منذ عدة أعوام، وظهرت حينها إستيلا لتتحدث عن جهودها في البحث عن حفيدها، أخبرت زوجتي حينها: انظري لتلك المرأة المسكينة، إنه لمن المحزن أنها قد أنفقت عمرها في بحث قد لا يسفر عن شيء، ولا تعثر على حفيدها في النهاية”.
على الرغم من الشكوك والأفكار التي كانت تنتاب إجناسيو بخصوص والديه الذي لم يكن يشبههما، إلا أنه حظى بطفولة طيبة غنية بالحب. نشأ في المزرعة بجوار الحيوانات، و رُبي جيدًا عن طريق من ظل يعتبرهما والديه رغم شكوكه، انهمك في القراءة، وتميز في المدرسة، ثم انتقل إلى بيونس آيرس ليدرس الموسيقى، قبل أن يعود من جديد إلى بلدة والديه، أولافاريا، ليصبح مدرس موسيقى ناجح، ويؤسس فرقته الموسيقية “فرقة إجناسيو هوربن”.
آملًا في أن تظل حياته مستقرة وسعيدة كما هي، لم يلتفت إجناسيو إلى شكوكه بخصوص والديه، حتى الثاني من يونيو من العام الماضي، 2014. إذ كان، كعادته، يحتفل بعيد ميلاده، لكن يومها، قررت إحدى المدعوات، واسمها سيليا ليزاسو، أن تبوح لزوجة إجناسيو بحقيقته، وتخبرها أنه مُتبنى.
كان على إجناسيو أن يقضي الساعات الباقية من عشاء عيد ميلاده باكيًا بعد أن أخبرته زوجته بما علمت من سيليا، التي كان أبوها مزارعًا مقرّبًا لفرانسوا أجيلار. ذهب بعدها إجناسيو لرؤية تلك المرأة المدعوة سيليا، التي لم تكن قد حكت القصة بأكملها، يقول إجناسيو: “لم تكن قد أخبرت زوجتي بأنني طفلٌ لأبوين قُتلا على يد النظام الديكتاتوري”.
لازال والدي إجناسيو اللذان قد تبناه على قيد الحياة، ويواجهان مشاكل قانونية بسبب تسجيلهما لإجناسيو في الأوراق الرسمية باعتبارهما والداه الحقيقيان. يحكي إجناسيو: “عندما ذهبت للتحدث معهما، شرحا لي أسبابهما لعدم إخباري بالحقيقة. إنهما مزارعان متواضعان، بالكاد أنهيا المدرسة الابتدائية. لم تكن لديهما الفرصة في الإنجاب، ثم أتى أجيلار صاحب المزرعة بطفل ليكون ولدًا لهما زاعمًا أن أمه لا ترغب فيه، وهو ما كان طبيعيٌ في تلك الأيام. لم تنتابهما أية شكوك، كانا يصدقان صاحب المزرعة. إنني أؤمن ببرائتهما، وأظن أنهما قد خدعا كي يوقعا أوراقًا لم يعرفا حقيقتها. أنا لا أكن لهما سوى الامتنان لما ضحيا به من أجل تربيتي”.
على الرغم من عدم انتهاء التحقيقات، إلا أن إجناسيو قد استطاع تجميع الأطراف الأساسية لقصته، يؤمن إجناسيو أن صاحب المزرعة المدعو أجيلار قد استلمه عندما كان لا يزال رضيعًا لا يبلغ من العمر سوى عدة أيام، وأعطاه لعائلة هوربن كي تتبناه مع تحذيرهم من إخبار أي أحد بالحقيقة. يفسر إجناسيو ذلك بأن أجيلار بشخصيته وخلفيته الاجتماعية، سيفعل أي شيء ليتملق للسلطة بغرض الحصول على بعض القوة، أما عائلة أجيلار، فأرملته مصابة بألزهايمر، بينما يعتقد إجناسيو أن أبناء أجيلار أبرياء، ولم ينلهم منه سوى حصاد فعلته الشنيعة التي يعتبرها أسوأ جريمة في تاريخ الأرجنتين”.
كفاح الجدّات
تمر الأيام، غير حميدة، على جدات ميدان مايو، يصارعن الموت في كبرهن، فينتصر على بعضهن، ولازال الكثير من أحفادهن مفقود، لذا، قررن أن ينشئن بنكًا به عيناتٍ من الحمض النووي الخاص بهن، مما يمكّن أي شخص يشك في أنه أحد الأحفاد المفقودين أن يذهب إلى هناك ويتأكد من ذلك حتى بعد رحيلهن عن هذه الحياة.
لم يكن يعلم إجناسيو عندما قرر أن يذهب إلى بنك جدات ميدان مايو ليخضع لاختبار عينات الحامض النووي أنه بذلك قد اتخذ آخر قرار له كإجناسيو هوربن. تقول الجدة إستيلا: “كان إجناسيو يفكر أنه إذا كان ابنًا لأحد الأزواج المُختَطفين، فإنه يريد أن يكون حفيد قائدة المجموعة، التي هي أنا. نقل لي أحد الأشخاص ذلك، وهو ما لم ينكره إجناسيو”. لكن المكالمة الهاتفية لم تكشف لإجناسيو أنه بالفعل حفيد إستيلا وحسب، بل أيضًا أنه ابن والمير مونتويا، الصديق الحميم السريّ لوالدته لورا كارلوتو.
مونتويا، الذي كان عازفًا في أحد فرق موسيقى الروك، سرعان ما انجذب إلى اليسار المعارض (حركة مونتونيروس)، وانتقل إلى مدينة لا بلاتا، حيث قابل لورا ووقعا في الحب، وعاشا معًا مستترين في محاولة باءت بالفشل للهرب من الشرطة السرية.
لمونتويا، الذي كشف فحص رفاته عن قتله بسلاح آلي، تمثال شُيّد لتخليد ذكراه في كاليتا أوليفيا ببتجونيا حيث نشأ. وعلى الرغم من الشائعات، إلا أن أحدًا لم يكن متأكدًا من أن له ابنًا، على الأقل قبل المكالمة الهاتفية التي تلقتها أمه أوترينزيا مونتويا تزف لها أخبارًا مفاجئة عن حفيدها إجناسيو، “لقد أمد الله في عمري حتى أعيش لليوم الذي أرى فيه حفيدي”.
عندما تلقى إجناسيو مكالمة بنك جدات ميدان مايو، الذي تديره إحدى بنات إستيلا، طلب منها أن تمهله بعض الوقت، لكنه سرعان ما غيّر رأيه: “فكرت أنهم ظلوا ينتظرون هذا اليوم لأكثر من ثلاثين عامًا، لذا أي تأخير عليهم سيكون قاتلًا حتمًا”. بعد ذلك بقليل، كان إجناسيو برفقة زوجته وبعض أصدقائه يقطعون أربعمائة كيلومترًا ليلتقوا بآل كارلوتو في مدينة لا بلاتا.
لقاء العائلة
كان لقاء إجناسيو بعائلته أشبه بالصدمة الحضارية، ابنٌ وحيد، تربى في مزرعة بعيدة، يعود الآن للمنزل بعد غياب أكثر من ثلاثين عامًا، ليلقى جدته، وأحفادها الثلاثة عشر الآخرين، وأخواله وخالاته الذين كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. يقول إجناسيو: “كانوا هناك، عائلتي، ينظرون إليّ غير مصدقين أنني أقف أمامهم، رأيت في عيونهم الفرحة بقدومي، كان ينتظرني بعدها الكثير من العناق والبكاء والحب”.
تقول إستيلا: “كنت أود أن أخبره عن حبي له، وأقص عليه كم ظللت أبحث عنه، لكنني يجب أن أكون حريصة، عادةً ما يسبب تحرّق الجدات لأحفادهن في أن يرغبن أن تتحرك الأمور بشكل سريع. لكن في عدة حالات، استلزم الأمر سنوات قبل أن يتقبل الحفيد وجود جدته، لذا أنصح الجدات أن يمهلونهم بعض الوقت، لا تتعجلوهم، ولا تغضبوا منهم، لا تطلبوا منهم شيئًا، فقط امنحوهم الوقت”.
كانت أسعد لحظات إجناسيو عندما اجتمعت جدتاه معًا لتتشاركا أحزانهما على لورا و والمير، وأيضًا غضبهما ضد الجيش: “لقد كان الأمر أشبه بضربة لكل من تسببوا في ذلك، ها نحن نجلس معًا ونتحدث بعد كل هذا ما جرى لوالدي. كنت أشعر أن الأرض تهتز للقاء هاتين المرأتين القويتين”.
إجناسيو، الذي أصبح كارلوتو، لم يلبي رغبة جدته في أن يغير اسمه إلى جويدو: “لقد أحزنني ذلك، كنت أرغب في أن يكون اسمه جويدو، وكانت تلك رغبة ابنتي عندما وضعته، لكنني أتفهم تمامًا رفضه، وأخبرته أنني سأناديه جويدو ، لقد ظللت أبحث عنه بهذا الاسم طيلة 36 عامًا، رغم ذلك، لازلت أحيانًا أتجنب أن أناديه بإسم لا يحبه”.
يقول إجناسيو:” إنه من المخيف أن تُنتزع من بين يدي أمك، لا يوجد لدي ذكريات عما حدث، لكن، ما الفائدة من أن أبكي على حياة لم أعشها؟ لقد عانى والديّ، لقد كانت لديهما الإرادة القوية ليضحيا بكل شيء في سبيل ما آمنا به، حتى مع حمل أمي لي، إنهما حقًا مذهلان. لكنني لم أعش أيًا من ذلك، كل ما لدي من ذكريات هو عن نشأتي في المزرعة وأبوين بذلا من أجلي كل ما يمكن فعله”.
أما إستيلا فلا زالت تذهب إلى عملها، تسافر يوميًا لمدة ثلاث ساعات إلى مكتب مجموعة جدات ميدان مايو في بيونس آيرس، تنشر رسالتهم إلى العالم. لقد كان إجناسيو الحفيد رقم 114 الذي يتم التعرف عليه، وعُثر بعده على حفيدين آخرين، لكن مازال هنالك المئات ينتظرون دورهم، وإستيلا لا تنتوي أن تتوقف أبدًا. تقول إستيلا: “كل ما فكرت به هو أن ابنتي لورا تستطيع أن ترقد في سلام، شعرت بأنها تخبرني ’لقد أنهيتي مهمتك بنجاح يا أمي‘.. لكن بالرغم من ذلك هنالك أحفادًا آخرين لا زالوا مفقودين، ولن أتوقف عن البحث عنهم”.