مقابلة
قصة قصيرة - أحمد بديع
في جدث فوق الأرض تخاله يعيش في عالم آخر، نظراته وهي تستقبلك، شعاع مبعثر يضيء قلب الناظر إليه، ذا شخصية قوية تحملك على إجلاله لرزانته ووقاره، وأخرى تدفعك إلى الضحك لتهكمه وسخريته، فاهه يزخر هزلاً ممزوجاً بتوتر اتجاه الآخرين، يشعرك باستفهام بطول المكوث معه، يجبرك على الرحيل خارج هذا الفضاء أو في بعض الأحيان إلى ما وراء الطبيعة، كلماته تخرج بفلسفة معسولة، وأحيانا متجعدة ذات طلاسم تفتح قريحتك أن تفسرها خارج نطاق اللغة.
الحساسية التي تنطوي عليها شخصيته بدت عند مقابلته في غرفته وبين جدرانها الأربعة، فبمجرد أن أصدر قفلُ باب غرفته اهتزازة حتى استدار مدبراً وبدأ بلف رقبته شيئاً فشيئاً يرمق الداخل عليه، ثم استوى جالساً على سرير حديدي ممدداً رجليه، يرتدي لباساً أبيض، شعره مشدود خلف أذنيه كي يبعده عن وجهه؛ حدّق قليلاً وعلى حين غرة سأل: ما سبب وجودك هنا؟
ومن غير مقدمات أجبت: أيعجبك أن تكون هنا؟ بدت أسنانه لفرط قهقهته الساخرة، فأجاب: حيث ما كنتُ كان قلبي سعيداً، حتى وإن كان منزلي في قعر بئر؛ لم أفهم ما يقصد. وبسرعة قلت أنا أعمل لصالحك؛ فيرد، وما مصلحتك؟ وماذا تجني من ذلك؟
جئت لأخذ شهادتك. شهادتي ... كتبتها على صفحة غيمة وأرسلتها في هذا العالم الواسع لتسقط غيثها على ضمائر قبرت إنسانيتها حتى أُعفي أثرها.
أحار أكثر من رده- سرعة المباغتة والمفاجأة تتعب النفس- يسأل مرة أخرى، شهادتي أنا: فأجيب نعم.
فيشير رافعاً إبهامه، دالاً على ذلك بموافقته للبوح أكثر بما يختلج فكره، وقال اكتب: لديّ أصدقاء كُثُر، إذا أردت حضورهم لتوثيق شهادتي فلن أبخل عليك بذلك، في هذه اللحظة مرّ صرصور أمامنا، جذبت نفسي نفوراً منه.
وكعادته يقهقه... إياك أن تؤذيه، فعلمت ما يرمي إليه، رمق نحو الأعلى وأخذ يتحدث: عندما لا تجد إلا نفسك في هذا العالم فعليك أن تهيم روحك لترقص بين ثنايا رياض الجمال، تحلُّ على زهورها لتنتشي برائحتها ثم تهديها إلى من يفتقدها، أو تمنحها إلى من نتنت نفسه فأخلد إلى الأرض؛ أهيم أكثرفأجتذب كل شيء فيها فأحتضنها وأضمها، ثم أكحل ناظري بألوانها الزاهية والجميلة، أحتسي من كوثرها رحيقاً أبعثه أملاً لكل من ملأ قلبه ظلمة وجهمة.
يرجع مرة أخرى لسخريته، أتريد شهادتي؟ امْح كل ما كتبت وخذ هذا أفضل، كومات ورق لفت بشكل كرات، نصحني بأن أفردها جيداً لأكتب ما يريد، شممت منها رائحة طعام، تبيّن أنها بقايا لفائف طعامه يبقيها لغاية في نفسه، فسألته، ماذا كان طعامك؟
كان طعاما متخماً لحد أنه ملأ كل زوايا معدتي التي كادت تنفجر فأطير لفرط انتفاخها، أما ترى أنها امتلأت هماً، وأشبعت غماً.
كل هذا التضاد يقلقني ولم أستطع أخذ شيء أثناء مقابلته سوى أنني وجدت أنه لم يعد يثق بمن على الأرض فتعلق بما هو أجلّ وأسمى، فلم أمكث معه طويلاً، خلا هذه الدقائق التي تمنيت أنني لم آتِ لها، لأتركه يسمو نحو ما هو أرقى وأقدس.