طوقُ النجاة
قصة قصيرة - خليل إبراهيم المرخي
ساهِمًا، شاردَ الذهنِ، أهيمُ في عالمٍ آخرَ، وقفتُ على حافةِ حاجزِ الباخرةِ العظيمةِ التي تُبحرُ مُثقلةً بالعالمِ مُصغّرًا على متنِها: ملاعب ، صالات سينما، برك سباحة ، حديقة حيوان، مطاعم فخمة، بشَرٌ كثيرون، وكلُّ ما يمكنُ أن تجدَهُ على الأرض.
لماذا أنا هنا؟ أينَ وجهةُ سفري؟
لستُ أدري!!
يكفيني أني راحلٌ عن عالمٍ لم أجدْ فيهِ غيرَ المتاعب، والهموم...
وفي الأثناء...
ـ طق طق طق ( تصفيق ) بالقربِ من وجهي.
ـ ماذا بك يا هذا؟!! أين أخذكَ الخيال؟!!
شابٌ ثلاثيني متأنقٌ غاية الأناقةِ بيده كأس نصف فارغ وقف بجانبي وأخذ ينظرُ بأقصى بصرهِ إلى المحيطِ المتلاطم الذي تمخرُ عبابهُ باخرتنا.
نظرتُ إليهِ مستفهِمًا سرَّ جرأتهِ اقتحامَ خلوتي دونَ أنْ تكونَ بيننا أي علاقة مسبقة، لكنّي أدركتُ سريعًا أنَّ طبائعَ الناسِ تتحكمُ فيهم، فجاريتهُ في الحديث.
ـ أنا هاربٌ من واقعٍ مريرٍ.
ـ وهل الهروب من المشاكل يحلُّها؟!
ـ أنتَ لا تعلمُ ما أعاني ، لقدْ عِفتُ الدنيا ولم أعُدْ راغبًا في العيشِ، فلماذا تطولُ بنا الحياةُ هكذا؟
ـ لكنّكَ لا تزالُ شابًّا!
ـ وليتني لم أبلغْ مرحلةَ الشبابِ، ولمْ أرَ ما رأيتُ.
ـ أتعلمُ أنَّ هذه الباخرة تحملُ على متنِها مختلفَ الناس، وجميعُهم يعاني من بعض المشاكل، لكنَّ...
وقبلَ أنْ يكملَ جاءَ نداءٌ لجميعِ المسافرين يدعوهم للتوجّه لصالةِ الاحتفالاتِ الكبرى وحضور الحفل الخاص على شرفِهم.
لمْ أكنْ في مزاجٍ يسمحُ لي بحضور احتفالات، غيرَ أن الشابَ المتطفلَ أخذَ بيدي ورأيتُني أسايَرهُ بلا إرادة.
في وسط القاعة المبهرة المتلألئة بالأضواء، والمجهزة بأفخم الأثاثِ، وأحدث التقنيات اجتمعَ المسافرونَ مبتهجين.
بدأَ ممثل الشركة المالكة بالحديث متفاخرًا عن عظمة الباخرة التي نحنُ فيها، ومبديًا من اللياقة تجاهَ المسافرين ما يكفي أيًّا منهم لأنْ يشعرَ بالنشوة. وعزفتْ الفرقة الموسيقية الخاصة روائع المقطوعات العالمية، وانكشفت المائدة عن مختلف الأطعمة والأشربة، وتعالتْ الضحكاتُ، واختلطتْ الأصوات... لكنّي كنتُ في نصفِ وعيي.
فجأةً انقلبتْ الحالُ وكأنَّ القيامةَ قد قامتْ. وجاء النداءُ الذي دعانا للدخولِ إلى قاعة الاحتفالات ينادي بالخروج منها، فالباخرة العظيمة تغرقُ.
كانَ مشهدُ الهلعِ الذي أصابَ المسافرين أشدَّ رعبًا من مشهدِ غرقِ الباخرةِ العملاقة بما فيها؛ إذ بدا أنْ أحدًا لا يفكرُّ إلا في خلاصِ نفسهِ.
لا تسألني عن تفاصيلَ، ولا كيفَ وجدتُ نفسي وسطَ المحيطِ متعلِّقًا بطوقِ نجاةٍ أنقذَني من الغرق ؟! من نجا؟ ومن لم ينجُ؟ لا أدري سوى أني رأيتُ تلكَ التي كانَ متحدِّثٌ قبلَ قليل يفاخرُ بعظمتها يبتلعها الماءُ كما يبتلعُ الغروبُ الشمسَ، والناسَ حولي منتفخةٌ بطونهم، متيبسةٌ أطرافهم، مفتوحةٌ أفواههم، وعيونهم صوبَ السماءِ كأنها كانتْ ترجو منها النجاة بعدَ فقد الأمل. عادتْ بي ذكرياتي لأمنيتي التي كنتُ أخافُ منها، فعاتبتُ طوقَ النجاةِ: لماذا أنقذتني ولم تسمحْ أن أغوصَ مع الباخرةِ؟!
ولكأنّي سمعتُهُ يجيبُني: أنتَ من تشبثَ بي، اتركني وسأدعُكَ لقدرِكَ معَ هؤلاء الذينَ يسبحونَ حولك موتى. سمعتهُ يقولُ ذلكَ فما كان إلا أن تشبثتُ بهِ أكثر.