الصِحافة المكتوبة بين الحنين إلى الورق والمستقبل الرقمي
الوسط – محرر المنوعات
أثار خبر إعلان جريدة السفير نيّتها التوقف عن الصدور، ورقياً وإلكترونياً، موجة من الردود والتعليقات في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي لا تزال ارتداداتها تتوالى. وطرح هذا الإعلان واقع الصحافة المأزوم والتحديات التي تجابهها للاستمرار في ظل ثورة المعلوماتية والإنترنت ، وذلك وفق ما نقلت صحيفة "النهار" اللبنانية أمس الأحد (27 مارس / آذار 2016).
بغض النظر عن توقف جريدة السفير عن الصدور من عدمه، إلا أننا تلمّسنا تعاطفاً كبيراً وتضامناً ومواساةً تظهر مدى تأثير الصحافة والدور الذي اضطلعت وتضطلع به في تكوين الرأي العام، خصوصاً عند جيلٍ شكّلت هذه الصحف جزءاً من يومياته وشخصيته وثقافته ووعيه. لكن، وعلى رغم هذه الحرارة في المواقف والعواطف الجيّاشة، فإنّ فئة كبرى من هؤلاء الأشخاص عينهم لم يعودوا يشترون الصحف الورقية بل يكتفون بقراءتها إلكترونياً.
وأخيراً، أعلنت صحيفة "الإنديبندنت" البريطانية توقف نسختها الورقية واتجاهها نحو الصحافة الرقمية قائلة: "اليوم توقّفت المطابع، وجفّ الحبر، وقريباً لن يُصدر الورق حفيفاً. لكن مع إغلاق فصل، يفتح آخر، وستواصل روحية الإنديبندنت الازدهار". أمام لحظات كهذه لا تنفع الشاعرية والغنائية والوقوف على الأطلال وكلام رائحة الورق وملمسه، بل لا بدّ من التعقلن والتصرّف بواقعية ومجاراة التطوّر الحاصل لئلّا يفوتنا القطار. مستقبل الصحافة هو الصحافة الرقمية، شئنا أم أبينا، ولا أحد يستطيع دفن رأسه في التراب. وفقط، على سبيل الذكر، فإن أول صحيفة إلكترونية صدرت كان ذلك سنة 1993، وهي صحيفة "سان خوسيه" الأميركية. الأكيد أن التخلّي عن الصحيفة الورقية لن يكون بالأمر الهيّن وهو لا يبدو أنه سيحصل في المدى المنظور، ولكن وفق ما نشهده من تطوّر تكنولوجي هائل، لن نعجب من أن تمسي الصحيفة الورقية نوعاً من الآثار تُحفظ في المتاحف لإخبار أجيال المستقبل عنها.
في ظلّ هذا التعولم، والثورة التكنولوجية، لم تعد الصحف الورقية تحتكر الخبر أو تكون مصدره، وصارت المصادر الرقمية هي المرجع نظراً لتوافر المعلومات ووجودها إلكترونياً وسرعة نقلها وانتشارها، خصوصاً في ظل الكمبيوتر، والألواح الإلكترونية، والإنترنت، والهواتف الذكية. إذاً، التغيير في عمل المؤسسات الصحافية ليس خياراً، بل هو ضروري وأمر واقع، في ظلّ هذا التغيير الجذري الذي أرسته هذه الفورة التقنية، لا سيما منها الرقمية، فأزيلت الحدود والحواجز وتدفقت المعلومات والأخبار والأفكار بحرية لم تكن سابقاً متاحة.
النقطة المركزية ألا تظنّ الصحافة الورقية نفسها مستهدفة بل أن ترى في الصحافة الرقمية تكاملاً، وألا يشعر الصحافيون بأن وظيفتهم في خطر ودورهم انتهى، ولا سيما التقليديين منهم، بل أن يندمجوا في هذا الوافد الرقمي الجديد ويتقنوا أدواته ووسائله. فدور الصحافي تغيّر وتبدّل، وتعدّدت المهمات المنوطة به من حيث متابعة الأخبار الدائم وسرعة إعداد الخبر وتناوله والتفاعل مع القارئ والتعلّم المستمر للتقنيات الجديدة.
دور الصحافة لم ينتهِ كما يظنّ كثرٌ، ولا سيما الصحافة الجدّية والرصينة منها، بل إنّ زمنها هو الآن، ورسالتها في تبيين الحقيقة والشفافية والصدقية في نقل الخبر ستتبلور أكثر حاضراً، والصحافيون الأكفياء سيزدادون التماعاً إن أتقنوا مهماتهم الجديدة. طبعاً، الصحافة المستقبلية لن تعود محصورة ببضع مؤسسات، نظراً إلى سهولة إنشاء مواقع صحافية رقمية وبميزانيات ليست ذات تكلفة ضخمة.
لكن التميز في هذا العصر الرقمي يتطلب جهوداً حثيثة ومواكبة لوسائط التواصل المتعددة، ودينامية وحركية في طريقة العمل وتحديثاً دائماً. العمل الصحافي لم يعد يقتصر فقط على كتابة الخبر أو المقالة الصحافية، بل يجب اختيار الصورة الملائمة وإمكان إضافة رابط فيديو، وحتى وضع رابط مقالة ذات صلة بالموضوع المُعالج تتيح للقارئ غنى أكثر. أما في الشقّ المادي فصحيح أن العائدات الإعلانية في تراجع نظراً إلى تعدد المواقع الصحافية وتالياً تَوزّع المردود المالي عليها، وكذلك بروز أخرى بحت إعلانية كمواقع للسيارات أو الشقق...إلخ، لكن، في المقابل، درّت عليها أموالاً وأتاحت لها إمكان تقليص مصاريف مراكز معينة وشركات، وأوجبت عليها ابتكار أساليب جديدة تستقطب من خلالها معلنين وموارد تؤمن لها البقاء والاستمرارية، مثلاً، وضع تعرفة بسيطة أو اشتراك شهري أو سنوي لقراءة الخبر كاملاً، وفي هذا نوع من إعادة الاعتبار للملكية الفكرية لكاتب المقال وللصحيفة لها ثمنها الحقّ.
ولا بدّ لنا من التطرّق إلى نقطة أخرى مهمة، هي الخبر وكيفية تناوله. بتنا اليوم نحتاج إلى مقاربة مختلفة في صوغ الخبر ومعالجته، وتالياً إلى أشخاص ثورويين في أفكارهم ورؤاهم يجرؤون على التجاوز وتقديم المختلف بتميّز واحترافية ومهنية استثنائية. وصحيح أن القارئ صار يبحث عن صحافة تُحاكي توجّهاته الفكرية والسياسية والعقائدية، لكنه لن يتوانى عن ولوج المقال الرصين والخبر النوعي والتحليل العلمي، لا سيّما أن ذلك يحتاج إلى نَقرة زرٍّ فقط.
أمام هذا التطور التكنولوجي الذي طاول كل مجالات الحياة لا تستطيع الصحافة أن تنأى بنفسها، بل يتوجب عليها أن تكون في صلب هذا التطور الحاصل الذي يستهدف قطاعها أكثر من قطاعات أخرى. وهي مدعوّة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى تلقّف هذه التقنيات الحديثة والاندماج والتآخي معها وإتقان عملها لاستمرار دورها الريادي في توجيه الرأي العام وإرساء مبدأ الحريات والديموقراطية.
لا يسعُنا جرّاء هذا الهذيان التقني غير أن نقف مشدوهين، ونتسائل: أيُعقل، غداً، أن نتأسف على اللوح الإلكتروني والهاتف الذكي كما نتأسف اليوم على الصحيفة الورقية؟ الجواب رهن المستقبل.