(رسالة مواطن) ... ماذا تهدي إلى كل من فقد أمه في عيد الأم؟
مشاعر مضطربة ومخنوقة، وأطياف تمر هنا وهناك لتسترجع ذكريات وصوراً لزمن جميل مضى نقياً كنقاء أصحابه. يتوقف القلم هنا ولا يتجرأ أن يبوح عمّا يختلج فؤاد صاحبه من مشاعر ليستبدلها بدموع وآهات مكبوتة يفضفض بها لقبر أم عظيمة اشتاق لها وضاع وتاه من بعدها.
في إحدى جلسات الجمعة العائلية قبل أسابيع طلب مني والدي كتابة موضوع عن أمي بمناسبة اقتراب عيد الأم، فصمتّ، ولم أدرِ أي جواب أجيبه لصعوبة الكتابة عن أمي، وهل لأمي حدود لتكتب لها مقالة، ولطالما كنت أقول لها بأن عيدها ليس يوماً؛ بل هو شعور وإحساس يعيش معنا كل يوم، فالكتابة إحساس وشعور لا يحكي ولا يكتب. كلما حاولت الكتابة عنك، تكسرت أجنحتي وخنقني العبرة، وغابت روحي، وتبعثرت الكلمات وتوقفت عن التعبير. فلا بداية لنهاية لم تنته، فكيف لحكاية حب جمعتني بك، ولعلاقة كنت فيها دائماً الطرف الذي يحتويني رغم قسوتي وفظاظتي في بعض الأحيان. فقد كنتُ دائماً ولآخر أنفاسك الطاهرة الطفل الذي ظلّ ينام بين أحضانك وفي ظلك، لأكبر مئات الأعوام، وليحتل المشيب والهم جسدي لحظة رحيلك. ولأبقى بغربتي تائهاً أسترجع ذكريات ذلك الزمن الجميل... ولا جمال كجمال أمي.
سافرتِ ولم تعودي، ورحلتِ الرحلة الأخيرة بلا موعد، وبقيت أنا جسداً بلا روح. هو العذاب وألم الفراق. ألم ليس كبقية الآلام، ألم يعشش في جسد أتعبه الشوق، يدرك أن لا لقاء سيجمعه بها في الدنيا؛ بل ينتظر لقاءً آخر في الآخرة، كانتظار يعقوب ليوسف عليهما السلام.
عيد الأم على الأبواب ولا أم لي فيه، يجيء عيد الأم اليوم وأنا وحيد محطم ومكسور الأجنحة بلا أم. ولا شعور يشابهه أن لا يكون لك في الحياة أم، بلا دفء ولا حنان. بلا سؤال يطمئن عنه، وملاك ينتظر زيارتي ليسأل عن أحوالي وعائلتي، وقت زيارتي لها، وقبلة على رأسها، ثم تغفو مطمئنة وقلبها يقول لي: (تحمّل بروحك وبالأولاد).
أذكر أن الدفء لم يغادر يدها يوماً، وكأنها كانت تجمع ما تبقى من دفء لها في الحياة لتعطيني إياه. كانت تعطي وتعطي وتعطي، ولم تنتظر يوماً، ربّما لأن الأم لا تعرف انتظاراً في الحياة سوى سعادة أبنائها.
مضت ستة أشهر على رحيلها وكأنها للتو رحلت، فما زلت غير مصدق أني أعيش على هذه الأرض من دونها وأتمناه لو كان حلماً وانتهى، ربما لأني لا أعيش في الحقيقة، فالأشياء بعد رحيلها باتت بلا معنى. الفرح أضحى باهتاً، والحزن بات عميقاً، وباب غرفتها لم يعد مفتوحاً كعادته لأسترق النظر إليها وأطمئن عليها وأجلس بجانبها وكأني طفل يتعطش لفترة الطفولة.
سامحني يا الله إذا بكيت على قضائك رغم أني مؤمن به، وبكيت على بلائك وأن أعلم أنه اختبار لي. سامحني يا الله إذا قلّ صبري وضاقت نفسي وسئمت وأنت أعلم بما في قلبي وبشوقي لأمي وأنت أرحم الراحمين. فهنالك أرواح طاهرة جاءت إلى هذا العالم لتهدي حياتنا النقاء ثم ترحل.
لا أزال حتى هذه اللحظة، أخشى الاتصال على هاتفها المحمول، لأني موقن أنها سترد علي، بصوتها الناعم الذي أتعبته ولم ترهقه الحياة "حسين. هلا يمّه. اشلونك واشلون العيال؟ دير بالك على حالك حبيبي".
أشياؤها لازالت تسكنني، ودمع ساكن لا ينهمر أمام أحد، حتى أختلي بنفسي فينفجر وأنفجر معه. لم أتصور في عيد الأم، السنة الماضية، أني سأكون في هذا العيد بلا أم، وهدية العيد، و"جمعة العيلة يوم الجمعة"، وفرح كانت تنثره علينا بوجودها، وبحديثها مع أحفادها، وضحكاتها معهم. لم أتصور أني أقف اليوم أمام قبر بارد، أو أن أمي ستموت يوماً، وأني سأتمكن من الوقوف في مواجهة شاهد قبر نقش عليه اسم أمي. كم أنت قاسٍ أيها الزمن!
اليوم... نجتمع اليوم، أنا وأخوتي عند قبرك، كما كنا نجتمع في غرفتك، لكن بلا هدايا مادية. أنت اليوم من تهديننا. حبك الذي ما زال يجمعنا ودعواتك المباركة لنا حتى وأنتِ في قبرك. ونحن نهديك ثمن تربيتك التي لم ولن تضيع بالتزامنا بديننا وبالقيم والأخلاق والمبادئ التي ربيتنا عليها لتكون سبباً لدعاء الناس لوالدينا والثناء عليهما، ولنجعل من يرانا يقول: "رحم الله من ربّاكم".
كنت أقول لها في مثل هذه المناسبة: كل عام وأنت بخير يا أمي. اليوم أقول: كل عام وأنت النور، والزاد الذي يمدني بالحياة، لأكمل رسالتك فينا، فقد غبتِ جسداً وما غبتِ روحاً. أمي أحبك أيتها الرقيقة حتى في رحيلك. كل عام وأنت ملهمتي يا أمي. وكل عام أيها الأمهات وأنتن بخير.
من كان لديه أم، فلينتهز كل نَفَسٍ له في هذه الحياة ليكون باراً بها، وقريباً منها. وليغدق عليها من حبه ومشاعره، ومن لم تكن له أم، مثلي، فليزر قبرها وليتصدق عنها وليدعو لها وليقرأ القرآن ويهدي ثواب ما قرأ لها، وليبكِ لافتقاده باباً من أبواب الجنة؛ بل والجنة تحت قدميها. فالدمع دافئ دافئ جداً، غاسل للقلوب ومهدئ للنفوس. وليكمل رسالتها فيه ورحم الله جميع أمهات القراء الماضين منهم، والأحياء ورحم الله من يقرأ لأرواحهن الفاتحة.
حسين محمد حكيم الطريفي