(رسالة مواطن)...إذا اصطدمت القيم الإنسانية مع القيم الحديثة، فأيهما تختار؟
الوسط - محرر الشئون المحلية
[ المهاتما غاندي رجل الهند الأول، نعرفه كرائد في مجال النضال السلمي ضد المحتل، المحتل العسكري الذي غزا بلاده وأعطى لنفسه الحق في التحكم بمقدرات تلك البلاد، ولأن الإنسان بطبعه لا يقبل الظلم فقد ثار العباد ضده، وكان لغاندي لمسته الخاصة التي يُعتقد أنه بفضلها تم دحر الإحتلال عن بلاده.
في تفاصيل نضال غاندي ضد المحتل، وفي تفاصيل سيرته الذاتية، لم أجد أنَّ نضال ذلك الإنسان كان في مجال واحد، بل أعتقد أنَّه كان في مختلف المجالات وعلى أكثر من صعيد، لكن لا أدري إن كنَّا نغفل سهواً، أو يُتعمد إغفالنا عن نضال من نوع فريد مارسه غاندي محاولًا التمسك بهويته أمام من يحتل أرضه!
راقبتُ بإعجاب شديد تسجيلات مسيرة غاندي إلى البحر، وقد رافقه كثير من أبناء شعبه من الرجال والنساء، حيث خالفوا أوامر المحتل بالامتناع عن استخراج الملح، وصارت أيديهم تعانق مياههم لتستخرج الملح وكأنَّه حبات لؤلؤ منثور ليحكي بعد حين قصة انتصار إرادتهم.
ما لفت نظري ولا زال، هو "لباس" المهاتما غاندي في رحلته تلك هو بالذات إضافة لكل من رافقوه، سروال ورداء أبيض يكشف أحياناً عن صدره النحيل! لم يكن غاندي رجلًا قرويًا بل كان محامياً وسياسياً حصل على شهادته بعد دراسته الحقوق في لندن، البلد الذي احتل وطنه كما أنَّه عاش في جنوب أفريقيا وتعرض للسجن هناك كما في بلده.
غاندي كان يعتنق الهندوسية إلَّا أنَّه ومن خلال ما قرأت عنه يذكر بأنه قد عاش حالة من الضياع واللاتوازن في بدايات تواجده في لندن بين كونه هندوسياً وبين أن يكون رجلاً انجليزياً نبيلاًَ، لكن سرعان ما انتصرت هويته!
ولعلي أجد أنَّ ذلك أحد أهم أسباب انتصار غاندي على المحتل، فقد وثق في ما يمتلك من فكر وهوية؛ بل صاغ من خلالهما نضالاً يعرف اليوم باسمه هو النضال باستراتيجية "اللاعنف"، إذ يقال أنَّ غاندي استعان بتعاليم دينه الهندوسي ليطهر روحه ويعينها على الصبر من خلال التمسك بكونه "نباتياً"، ومن خلال تمسكه بـ"الصيام" كرياضة روحية! هل نعود لمسيرة "ملح غاندي" العام 1930؟ بل لنعد لكل صورِهِ التي يتلقفها معجبوه من كل مكان، لن نجده سوى "رجلً هندي امتياز"!
إنَّ أكثر ما صرنا نعانيه اليوم، محاولات انتزاع الإنسان، أي إنسان، من هويته ومعتقداته وخصوصية انتمائه، هندياً كان أو عربياً، مسيحياً كان أو مسلماً أو غير ذلك، وتحت سرعة وقسوة عجلة الاقتصاد، وخدمة لتجار سوق خبثاء لا يهمهم سوى الربح الذي سيجنونه من جراء نزع الهنود لساريهم، ونزعنا لأثوابنا، بل الأدهى والأمر نزعنا لقيمنا! لتكون قيم السوق هي الحاكمة، وتحت عناوين الحداثة والعولمة والتطور والعقلانية يصبح كل البشر مجرد لاهثين، طاقات بشرية وعقلية تتفجر من أجل صناعة يستمر كل البشر في اللهث من أجل اقتنائها!
إنَّ القضية لا تتعلق حتماً بثوب نلبسه، لكن للباسنا أسس تحكمها عقيدتنا ويفصلها انتماؤنا، وحين يكون انتماء الإنسان وعقيدته هو الحكم لا قيم السوق فذلك يعني أرباحاً أقل لهم!
سمعت حديثاً لأحد المحاضرين، يذكر فيها فكرة ويضع معها أدلتها، تختصر في أن سياسة "حجب الثقافة الجنسية وحد علاقاتها" كانت متفشية في أوروبا حد الكبت والقمع حتى بدايات القرن التاسع عشر، ولأسباب يعتقد أنها اقتصادية تتمثل في المحافظة على طاقة الإنسان للمصانع، والمزارع، وتحصر الجنس ضمن مركب الأسرة من أجل إنجاب المزيد من العمال، حتى أن مجرد الحديث وإنْ من باب العلم والتعلم عن الزواج كعلاقة جنسية، كان يُعرِّض المتحدث أو الكاتب للمساءلة القانونية! إلَّا أنَّ بعض النظريات العلمية التي بدأت بالظهور خصوصاً نظريات فرويد التي تتحدث عن "جبرية الرغبة الجنسية" لفتت نظر الاقتصاديين لربحية كل سلعة، حين يعلن عنها بايحاء جنسي فضلاً عن الأفلام والصور والرسومات والمواد الاباحية، لتتساقط قوانين كبت الجنس أمام الإباحية الجنسية وأيضاً لأسباب اقتصادية تتعلق بالربح!
وحين اصطدم مركب الأسرة مع الإباحية وما قد يجنيه من ورائها تجارُها، صارت الدعوات تتجه نحو الحرية التامة وقبول الانسان كما هو، فحتى الشذوذ الجنسي ليس سوى طبيعة في بعض البشر! وحتماً ليس من العدل أن يعاقب الله البشر على ما جبلهم عليه! وبذلك صار سوق الإباحية يتنوع ويتسع وتتساقط أمامه القيم والحدود.
وبعيداً عن تقييم تلك الفكرة للمحاضر، مدى دقتها وصحتها وخطئها، إلا أن الواقع يقول أن هناك دفعاً شديداً باتجاه وأد الخصوصيات والقوميات والهويات والانتماء من أجل أن يكون الكون كله سوقاً مفتوحة لكل ما يدّر الربح، بلا قيود دينية ولا اجتماعية ولا غيرها.
إن القيم والتشريعات والعبادات، هي أسس تقوم عليها تنشئة الفرد وتكوين المجتمع، إن كل خلق وقيمة وعبادة يدعو لها الإسلام في نتيجتها تحقّق مصلحة عليا للبشرية وعليه فلا بد أن تنتصر خارطة الطريق التي وضعها الله للإنسان، إذ أن خارطات الطريق البشرية حتماً تخضع لأهواء وأطماع البشر طارحة من حساباتها صلاح الإنسان والمجتمع منتصرة لمصلحتها فحسب، والإنسان الواعي لا بد أن ينتصر لخارطة الطريق الإلهية، عارفاً بها واثقاً من صلاحها، فكيف يقبل أصحاب العقول النيرة أن يكونوا ألعوبة اصطلاحات برّاقة تتلاعب بهم عاطفياً من قبيل "الحداثة والعولمة"! إن كانت القيم الإنسانية تقف في حالة تصادم مع القيم الحديثة، فهل يصعب على الإنسان العاقل أن يختار؟
إيمان الحبيشي