جهود عربية لإنجاز مصالحة تركية – مصرية
الوسط – المحرر الدولي
كان 2015 عام تراجع السياسة الخارجية التركية بامتياز. هذا التراجع فرَضَته تحولات المشهد الإقليمي وتداعيات الأزمة في سورية، فضلاً عن فشل رهانات أنقرة على الربيع العربي، وإفرازاته التي انتهت بالصعود الموقت لقوى الإسلام السياسي التي تجتمع معها أيديولوجياً ، وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم السبت (16 يناير / كانون الثاني 2016).
وبينما شهدت علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي توتراً، على خلفية الاصطفاف إزاء الأزمة السورية، وكانت الأزمة مع العراق وصلت الذروة بعد إرسال تركيا قوة عسكرية إلى معسكر للمقاتلين، في بلدة بعشيقة قرب الموصل.
في المقابل تميّزت علاقاتها مع قطاع معتبر من دول الخليج بالفتور، ناهيك عن مرحلة الشحن مع القاهرة عقب عزل الرئيس محمد مرسي. كما تجد تركيا نفسها اليوم مأزومة دولياً على خلفية اصطدامها مع روسيا بعد إسقاطها مقاتلة من طراز «سوخوي 24» مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
وجاءت مساندة حلفاء أنقرة أزماتها غير متوقعة ودون المستوى، فعلى سبيل المثل خذلتها واشنطن وحلف شمال الأطلسي «الناتو» في شأن إقامة منطقة آمنة شمال سورية لاستيعاب اللاجئين الفارين من ويلات الحرب السورية. وهناك صدمات أخرى أنزلها حلفاء تركيا على رأسها واحدة بعد الأخرى، منها مثلاً رفض الغرب اعتبار قوات «حماية الشعب» الكردية وذراعها السياسية «حزب الاتحاد القومي الكردي» منظمتين إرهابيتين، ناهيك عن المواقف الضعيفة في أزمتها مع روسيا.
وفشل رهان أردوغان على الإسلام السياسي، إما لسقوط أنظمة الحكم التي تصدرها الإسلاميون، كما هي الحال في مصر وتونس، أو لتباين رؤى الإسلاميين إزاء أوضاع الداخل في دولهم، كما هي الحال في سورية وليبيا.
لذلك، توجهت أنقرة نحو تعزيز علاقاتها مع السعودية، والتي انتهت بتأسيس «مجلس تعاون استراتيجي» بعدما رحبت بقيام التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب. وقررت إنشاء قاعدة عسكرية في قطر. وجاءت الخطوة الأهم بفتح مسارات العلاقة مجدداً مع تل أبيب بعد أن تجمدت على خلفية حادث الاعتداء على السفينة التركية «مرمرة» التي حاولت كسر الحصار على قطاع غزة في عام 2010.
في هذا السياق العام، يُفتَح الباب واسعاً حول فرص التقارب المصري - التركي، وهل يمكن أن تلعب الرياض دوراً في إحداث هذا التقارب، خصوصاً أنها تحتفظ بعلاقات وثيقة مع القاهرة، كشفت عنها قرارات الملك سليمان الأخيرة في 16 كانون الأول الماضي، بزيادة الاستثمارات السعودية في مصر، وتأمين احتياجاتها من الطاقة لمدة خمس سنوات، إضافة إلى دعم حركة النقل في قناة السويس.
وعلى رغم نفي مصادر ديبلوماسية خبر وساطة سعودية لتقريب وجهات النظر بين القاهرة وأنقرة، إلا أن ثمة عوامل تلمّح إلى دور سعودي لتعزيز المصالحة بين الدولتين، أولها الرغبة ببناء محور سُنّي في مواجهة المشروع الإيراني والتحالف الرباعي الجديد الناشئ («إيران - روسيا - سورية - العراق»)، وكبح جماح إيران. ووصل التوتر الذروة بين الرياض وطهران عشية إعدام نمر النمر مطلع كانون الثاني (يناير) الجاري، وما أعقب ذلك من مهاجمة للمقار الديبلوماسية السعودية في إيران.
في المقابل، فإن نجاح التحالف الإسلامي الذي اقترحته الرياض تظل فاعليته مرهونة بالتقارب المصري - التركي، باعتبارهما من الأربعة الكبار في الإقليم، وفي العالم الإسلامي، على رغم تباين المصالح وتناقض المفاهيم حول معنى الإرهاب والجماعات الإرهابية والعلاقات الإقليمية بين القاهرة وأنقرة.
خلف ما سبق، فإن التجهيزات للقمة الإسلامية المقررة في نيسان (أبريل) المقبل في إسطنبول تجري على قدم وساق، ولعل ذلك ما يدفع الرياض إلى تسريع جهود التقارب بين الرئيسين أردوغان والسيسي، لا سيما أن الأخير هو الرئيس الحالي لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي.
صحيح أن منحنى العلاقة بين أنقرة والقاهرة وصل إلى الذروة بعد وصول محمد مرسي إلى السلطة في حزيران (يونيو) 2012، وكان الدور التركي عاملاً مؤثراً في السياسة الخارجية المصرية بفضل المعونات والإقراض من دون فوائد أو بفوائد مخفضة، غير أن التطور الذي أحدثته «ثورة» 30 يونيو وسقوط النظام السياسي في مصر أحدثا تأثيراً سلبياً في الاستراتيجية التركية تجاه المنطقة.
لكن التحوّلات التي شهدها الإقليم في السنوات الثلاث الماضية، قد تدفع تركيا ومصر إلى مراجعات وتراجعات في سياستهما الخارجية، ومن هذه التحولات تراجع علاقات أنقرة مع عواصم الإقليم مقابل تعزيز إيران مواقعها في المنطقة، ثم تحوّلها شريكاً للغرب بعد أن قطعت شوطاً معتبراً على صعيد تسوية أزمة برنامجها النووي.
في المقابل، فثمة نقاط ضعف في نمط العلاقات التركية - الأوروبية، ومنها تسويف قبول عضوية أنقرة في العائلة الأوروبية، وإن عادت لتوها المفاوضات المنسية بينهما تحت ضغط أزمة اللاجئين السوريين التي تمثل نعمة لأنقرة. كما تعيش تركيا أزمة داخلية، تتجلى في فشل تسوية القضية الكردية، وتصاعد حالة الاحتراب العرقي، ناهيك عن تذمر المعارضة السياسية من إصرار أردوغان على تحويل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي.
والقاهرة ليست أحسن حالاً من تركيا، فهي تعاني فتوراً في علاقاتها الإقليمية، ومراوحة مع القوى الكبرى. وعلى رغم التطور في علاقاتها مع موسكو إلا أنها تعرضت لانتكاسة مع اختبار الأول لها عقب سقوط طائرة الركاب الروسية في شرم الشيخ نهاية العام الماضي، حتى أن موسكو قررت تجميد رحلاتها السياحية إلى المنتجعات المصرية، وسحبت رعاياها. أيضاً تعاني مصر عشية الذكرى الخامسة لثورة 25 كانون الثاني من وضع اقتصادي مأزوم، إذ وصل معدل البطالة إلى نحو 12,7 في المئة مقابل ارتفاع التضخم إلى 11 في المئة، وتراجع الاستثمار الأجنبي.
في هذا السياق، قد تجد السعودية فرصة لتمرير جهود المصالحة، فضلاً عن مؤشرات يمكن أن تعضد من الجهد السعودي، منها حاجة البلدين إلى القفز على وضعهما الإقليمي، ومعالجة احتقانات الداخل.
وعموماً، فإن أنقرة والقاهرة ما زالتا تحتفظان بعلاقاتهما الديبلوماسية من جهة، وتطوير علاقاتهما التجارية من جهة ثانية، فعلى رغم تراجع الاستثمارات التركية في مصر إلا أنها ما زالت عند مستوى معقول، حيث وصلت وفق بيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى بليوني جنيه مصري، ويعمل بها عدد معتبر من العمالة المصرية. كما أن لمصر مع تركيا اتفاقيتين تجاريتين هما اتفاقية «الرورو»، واتفاقية «التجارة الحرة»، وكانت الحكومة المصرية قررت عدم تجديد الاتفاقية الأولى.
إضافة إلى ما سبق، فإن المعارضة السياسية التركية التي تمثل عنصراً ضاغطاً على نظام الحكم، لا تحمل توجهات معادية لمصر، فعلى سبيل المثل وعد دميرطاش بتعزيز العلاقة مع القاهرة شأنه في ذلك شأن باقي القوى المعارضة، وفي مقدمها حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية الذي ألقى زعيمه دوللت بهتشيلي باللوم على نخب الحكم في توتير العلاقة مع القاهرة، وقال عشية الانتخابات التشريعية التي أجريت في حزيران (يونيو) الماضي: «إن أردوغان أضاف إلى تركيا أعباء جديدة بسبب محبته الكبيرة لمرسي ورفعه إشارة رابعة في كل مكان وسعيه إلى التدخل في شؤون مصر الداخلية». كما تتعالى أصوات غير قليلة داخل حزب العدالة والتنمية، في شأن ضرورة تطوير السياسة الخارجية التركية حيال دول الإقليم، خصوصاً مصر وسورية وليبيا، ناهيك عن امتعاض المؤسسة العسكرية من السلوك السياسي للحكم لجهة تصعيد العلاقة مع القاهرة.
وعلى رغم ما سبق من مؤشرات، فإن الدور السعودي لإحداث التغيير في العلاقات المصرية - التركية قد يصطدم بمعوقات عدة، منها إصرار أردوغان على وصف ما جرى في القاهرة عشية 3 تموز (يوليو) 2013 بالانقلاب العسكري، وثانيهما عدم تراجع القاهرة عن مطلبها بضرورة فك الارتباط القائم بين تركيا وجماعة «الإخوان المسلمين» التي تصنفها القاهرة إرهابية.
والخلاصة أن الجهد السعودي الذي لم يكن الأول من نوعه، قد يساهم في اختراق جدار العزلة بين أنقرة والقاهرة. وعلى رغم المعوقات التي تغذي حال الترقب والشكوك بين العاصمتين، فإن خيار المصالحة والتقارب يظل هو الأقرب بالنظر إلى التعقيدات الإقليمية، وتراجع حظوظ البلدين في معادلة إعادة صوغ المنطقة التي يتم تقسيمها على مذبح المصالح والتوازنات الدولية.