بوتين في سورية مقلق لخصومه... ولحلفائه
الوسط – المحرر السياسي
يحاول كثيرون معرفة ما يدور في خلد الرئيس فلاديمير بوتين إزاء سورية ، وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" اليوم الخميس (14 يناير / كانون الثاني 2016).
محاولة معرفة ذلك أقرب إلى قراءة الفنجان. وطبيعي أن ينقسم «حلفاء» النظام السوري و»أصدقاء» المعارضة إزاء ذلك. لكن الواضح، أن هناك قلقاً مما يضمر في ذهنه ومرارة الدواء الذي يقدمه. بوتين الرهيب، مقلق في سورية وغيرها، مقلق لخصومه... وحلفائه.
وزير الخارجية الأميركي جون كيري عاد إلى واشنطن بعد لقاءات مطولة مع بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف في موسكو «مطمئناً» من أن الكرملين مستعد للمضي في عملية سياسية وفق البرنامج المقترح من «المجموعة الدولية لدعم سورية» في أن يجتمع ممثلو الحكومة السورية والمعارضة للتفاوض خلال ستة أشهر للوصول إلى حكومة انتقالية تتسلم الصلاحيات التنفيذية الكاملة وتعد لدستور جديد ثم بعد ١٨ شهراً إجراء انتخابات بإدارة وإشراف الأمم المتحدة لا يشارك فيها الرئيس بشار الأسد. قناعة كيري، التي نقلها إلى حلفائه من الوزراء، أن روسيا مستعدة للدخول في عملية تؤدي إلى «ولادة نظام سياسي جديد من ركام النظام القائم» وإلى «بناء مؤسسات الدولة من بقايا المؤسسات الباقية». المهم، في قناعة كيري، أنها «استنتاجية» أكثر مما هي اتفاق.
من هنا تأتي أهمية خريطة الطريق التي أعدها الفريق السوري في واشنطن وسربتها وكالة «أسوشيتد برس». تضمنت الخريطة إطلاق سراح معتقلين وتشكيل لجنة أمنية وهيئة حكم انتقالية من النظام والمعارضة في نيسان (أبريل) المقبل على أن يجري في أيار (مايو) حل البرلمان لدى انتهاء ولايته وتسمية مجلس تشريعي موقت بالتزامن مع اعتراف مجلس الأمن الدولي بشرعية الهيئة الانتقالية وعقد مؤتمر للإعمار والمصالحة. وبين حزيران (يونيو) وكانون الأول (ديسمبر) المقبلين، يجري العمل على صوغ دستور جديد يطرح لاستفتاء في كانون الثاني (يناير) المقبل. وفي آذار (مارس) «يتخلى» الأسد عن صلاحياته و»تغادر الحلقة الضيقة». وتمارس هيئة الحكم «سلطات كاملة» إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في آب (أغسطس) ٢٠١٧، عندما تشكل حكومة جديدة. ولمن يريد جرعة إضافية من التفاؤل، بدأت دول غربية وإقليمية في «غربلة» أسماء مرشحة لترؤس هذه الحكومة والمشاركة فيها.
عارفون في خلفيات الخطة الأميركية، يقولون إنها وضعت قبل بدء عملية فيينا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وإن برنامجها الزمني كان قائماً على أساس بدء عملية «المجموعة الدولية لدعم سورية»، وإن تسريبها في هذا الوقت استهدف «إدارة التوقعات». بالنسبة إلى المعارضة كي تعرف أن «الأسد باق خلال مرحلة التفاوض» وبالنسبة إلى الموالاة أن تعرف أن «الأسد ليس باقياً إلى الأبد».
صدى هذه الخطة كان مقلقاً في دمشق. النظام مرتاح للدعم العسكري والغطاء الجوي الروسي الذي يتلحف به منذ أيلول (سبتمبر) الماضي. لكن مصدر القلق أن خريطة الطريق جاءت بعد اتصالات أميركية - روسية وأن تسريبها جاء بعد صدور القرار ٢٢٥٤. المقلق فيها، وجود قناعة أن النظام «لا يستطيع بلع هذا الدواء المر» خصوصاً أن بعض أركانه لا يرون النظام مريضاً ويتعايشون مع «المرض العضال» الذي تعاني منه سورية. لذلك، أوفدت دمشق مسؤولين أمنيين وسياسيين إلى موسكو. وبحسب معلومات، عادوا خاليي الوفاض. لم يقبل بوتين تحفظات دمشق على مشاركة سوريي الشتات في الانتخابات ولم يقبل أيضاً إلغاء إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات. هنا، قيل إن مقايضة روسية -أميركية حصلت: موافقة موسكو على انتخابات بإدارة وإشراف الأمم المتحدة طالما أنها تقول إن السوريين يقررون مصير الأسد، مقابل موافقة واشنطن على بقاء الأسد إلى نهاية المرحلة الانتقالية وترك مصيره للسوريين في هذه الانتخابات.
أحد أسباب فتح القيمين على دمشق الأبواب مشرعة للسوريين كي يغادروا إلى المهجر، هو فك ارتباطهم بسورية. لكن إن يعودوا من بوابة القدرة على التصويت والانتخابات بحرية ورقابة دولية «أمر لم يكن ضمن الخطة». وما أضاف تعقيداً إلى التعقيدات، أن «بحثاً استقصائياً أجري في شكل غير معلن داخل مناطق سيطرة النظام، توصل إلى خلاصات رفعت إلى القيادة مفاده أن نسبة التأييد في أي انتخابات لا تتجاوز ٢٥ في المئة من الأصوات»، بحسب مصادر. «الحل البديل» في دمشق من التصور الأميركي - الروسي المبارك في القرار ٢٢٥٤، يبدأ بإغراق المفاوضات في التفاصيل ووضع أولويات تبعد الاستحقاق الرئيسي لمفاوضات جنيف. قد يكون جعل «الملف الإنساني» وإدخال المساعدات «مفيداً» لجهة تغيير الأولويات (كما حصل في مفاوضات «جنيف-٢» بداية ٢٠١٤ عندما باتت إغاثة حمص على أهميتها، هي المسألة)، إضافة إلى تحفظات على تشكيلة وفد المعارضة ورفض وجود ممثلي فصائل مقاتلة فيه.
على طاولة جنيف، تتضمن الخطة مد المفاوضات والتركيز على ملف «محاربة الإرهاب». سياسياً، العرض المقدم، يقوم على مفاوضات من دون سقف زمني لتشكيل حكومة وحدة يشارك فيها «معارضون وطنيون» على أساس الدستور الحالي للعام ٢٠١٢ بحيث يؤدي رئيس الوزراء وأعضاء حكومته اليمين الدستورية أمام الأسد. وباعتبار أن الأسد سيصدر مرسوماً بالتمديد للبرلمان الحالي في نهاية ولايته منتصف العام الحالي، فإن الحكومة الجديدة تعمل على صوغ دستور جديد يملك النظام اليد الطولى في صياغته ويقر في استفتاء عام، يخلفه برلمان متولد من انتخابات برلمانية «في نهاية المرحلة الانتقالية». أما بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية، فإن موعدها بحسب توقيت دمشق، هو في ٢٠٢١. وإذا اقتضت المرونة، يمكن تقديم الانتخابات إلى ٢٠١٩. تتضمن الخطة البديلة أيضاً، احتمال أن تكفل هندسة الدستور أن يتم انتخاب الرئيس في البرلمان وليس في انتخابات عامة. بذلك، تفرغ رعاية الأمم المتحدة للانتخابات من مضمونها.
بعض «أصدقاء» المعارضة، بينهم الحكومة التركية، قلقون (أيضاً) من أن تكون الخطة الأصيلة لبوتين لا تختلف عن خطة دمشق وأن ما يبيعه الكرملين إلى البيت الأبيض ليس أكثر من وعود في الهواء. هم قلقون من أن يكون هدف القيصر الروسي هو شراء الوقت عبر إطلاق عملية سياسية، كما هي الحال مع أهداف دمشق وطهران. بحيث تؤدي هذه العملية السياسية إلى ولادة «حكومة عرجاء» في دمشق وبعض مدن «سورية المفيدة» ما يعني على عكس ما يعتقد كيري، أن تكون النتيجة «ليس ولادة نظام سوري جديد، بل إعادة إنتاج النظام الحالي».
بالتوازي مع هذه العملية السياسية تستمر العمليات العسكرية. الهدف الأول، إخضاع المعارضة عبر تدمير البنية التحتية لمناطقها وقطع رؤوس قادتها الواحد تلو الآخر كما حصل مع قائد «جيش الإسلام» زهران علوش وحصد طبقاتها واحدة بعد الأخرى إلى أن ينبت قادة مستعدين للتعامل والتعاون مع الروس كما حصل في الشيشان. الهدف الثاني، لا مكان في الوسط. شراء الوقت لإلغاء المنطقة الوسط عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. وبينما يكون الرئيس باراك أوباما «سعيداً» بإطلاق عملية سياسية في «أكبر كارثة إنسانية» منذ الحرب العالمية الثانية قبل انتهاء ولايته، عندما يأتي الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض، يرى أمامه: النظام و «داعش»، عليه الاختبار. بالتالي، فإنه «حكماً سيختار النظام وإعادة الشرعية له».
يقترح بعض دول «أصدقاء الشعب»، خياراً بديلاً. الاستمرار في المفاوضات بين النظام والمعارضة وزيادة دعم المعارضة المعتدلة و «عدم السماح بسحقها» لقناعة هذه الدول «أنه لا يجوز الاطمئنان إلى نيات بوتين» وأنه «من السذاجة تصديق الكلمات الروسية وتجاهل الأفعال الروسية» خصوصاً أن بوتين «يعتقد أن بقاء النظام وبقاء الأسد، هما أوضح مثالين لانتصار رأيه وفشل الغرب في سورية بعد فشله في العراق وليبيا». ويضرب بعض الدول مثالاً إلى ذلك، أن روسيا قتلت علوش بعد مشاركة «جيش الإسلام» في المؤتمر الموسع للمعارضة في الرياض وإقرار قبول الحل السياسي - التفاوضي وأن روسيا خرقت تفاهماً كان قائماً في ريف درعا في أن لا تقوم فصائل «الجيش الحر» بعمليات هجومية مقابل عدم شن روسيا غارات على هذه المنطقة. الآن، يومياً تشن روسيا عشرات الغارات على مدينة الشيخ مسكين في ريف درعا. كما أن موسكو تتحدث عن تعاون «الجيش الحر» معها، فيما الثابت أن التعاون الوحيد القائم هو غرب نهر الفرات عبر توفير غطاء جوي لـ «قوات سورية الديموقراطية» الكردية - العربية ضد «داعش».
بعيداً من قلق النظام من نيات بوتين السياسية ومرارة الدواء الروسي. وبعيداً من اطمئنان أوباما إلى «وعود» القيصر. وبعيداً من تخوف دول إقليمية وغربية أن كل تنازل لموسكو، يراه بوتين ضعفاً يشجعه على طلب المزيد والتمادي في مقارعة «منظومة العقل»، فان القرار ٢٢٥٤ خطوة مهمة لأنه تضمن تصوراً للحل السياسي واحتمالاً لنهايات «اللعبة الدامية».
من الآن وصاعداً، هو صراع على كيفية تنفيذه هذه الخطة وفي أي شروط ومواعيد. كل تفصيل سياسي وكل جلسة تفاوض، هي ضمن التراكم السياسي وصولاً إلى صوغ العقد الاجتماعي السوري الجديد. و«جنيف-٣» يحمل إضافة وتراكمات على «جنيف-٢» قبل سنتين و«جنيف-١» قبل أربع سنوات.