«زلزال» أوروبا 2015: «داعش» واللاجئون وإنسانية مركل
الوسط - المحرر السياسي
في مراجعة عام 2015 في أوروبا، تتدافع مشاهد طوابير اللاجئين من الحدود المشتركة بين اليونان ومقدونيا حتى محطات القطارات في ميونيخ مروراً بحدود هنغاريا المسيجة بالأسلاك الشائكة بينها وبين كل من كرواتيا وصربيا.
وحسبما نقلت صحيفة "الحياة"، فإن المراجعة تتسع لتملأها تناقضات البيانات السياسية الأوروبية التي كشفت عن هوة حقيقية تفصل بين غالبية الدول الأوروبية في مقدمها ألمانيا التي تمسكت بقيمة حق اللجوء الأساسية، وبين مجموعة الدول الشرقية التي لم تتردد عن الكشف عن عدائها للمهاجرين واللاجئين متذرعة بوهم «خطر الإسلام على أوروبا» مثلما أكد رئيس حكومة هنغاريا في أكثر من مناسبة.
والمراجعة تهتز باعتداءات الإرهاب التي أدمت باريس في ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) التي قتل فيها ١٣٠ مدنياً بريئاً وأصيب المئات من الذين التقوا ليعيشوا حريتهم في الفن أو السمر أو مشاهدة كرة القدم.
واختصر الرئيس فرنسوا هولاند خطة الإرهابيين بأنهم «تدربوا في سورية وأعدوا عدتهم في بلجيكا ونفذوها في باريس». وهو بذلك أوجز التداعيات المتوقعة منذ سنوات، والتي تترتب عن مشكلة «المقاتلين الأجانب» في سورية التي مزقتها خمس سنوات من الاقتتال المدمر.
إنقاذ اليونان والاتفاق النووي
وغطت محنة اللاجئين وأخطار الإرهاب على أحداث عام ٢٠١٥ في أوروبا، وهي لم تكن اختبارات يسيرة. فقد أنقذ الاتحاد الأوروبي اليونان من الإفلاس وأنفق، بعد مفاوضات شاقة بين الدول الأوروبية وألمانيا وبينها واليونان، قيمة إجمالية فاقت ٣٠٠ بليون يورو في مقابل إجراءات تقشفية صارمه تقوم أثينا بتنفيذها تحت إشراف أوروبي. وشكلت المفاوضات عملية ترويض ألمانية لزعماء اليونان من اليسار الجديد الذي يتولى السلطة لأول مرة في دولة أوروبية.
كما غطت محنة اللاجئين والتداعيات الأمنية الخطيرة التي كشف عنها المحققون، منها احتمال اختراق أنصار تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة» موجات اللاجئين السوريين والعراقيين أو الأفغان، على الإنجاز الدولي الذي تحقق في ١٤ تموز (يوليو) خلال توقيع مجموعة الست وإيران الاتفاق النووي في فيينا. وتأكدت أهمية الاتفاق في نهاية العام عندما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منتصف كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٥ في فيينا عن «إقفال» ما سمي «البعد العسكري المحتمل» في برنامج إيران النووي. وكانت الخلاصة أن إيران أجرت اختبارات ذات بعد عسكري قبل ٢٠٠٣، وفي شكل متقطع قبل ٢٠٠٩، ولكن من دون أن تتجاوز الاختبارات نطاق دراسات الفاعلية العلمية.
ويعد الاتفاق في نظر الاتحاد الأوروبي أكبر إنجاز دولي في السنوات الأخيرة قد تطاول ارتداداته إدارة الأزمات في المنطقة بدءاً بالأزمة السورية، وهو ما تأكد إلى حد ما من خلال مشاركة إيران لأول مرة مباشرة في المشاورات حول مستقبل سورية.
وقاد الاتحاد الأوروبي مفاوضات مجموعة الست وإيران منذ ٢٠٠٦. ويعد الاتفاق نصراً على حساب الخيارات الأخرى ويسجل في رصيد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللذين سعيا، بتشجيع روسيا والصين، على النزاع مع إيران بالوسائل السلمية. وتستخدم الديبلوماسية الدولية منهجية التفاوض بين مجموعة من الدول وبين طرف آخر في مقاربة حلول الأزمة السورية التي صيغت في فيينا بين شهري تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني. والهدف أن تتفق مجموعة من الدول الكبرى وبعض الأطراف الإقليمية ذات التأثير المباشر في النزاع السوري لوضع الإطار العام للتفاوض بين ممثلي الحكومة السورية والمعارضة. ويتوقع أن تنطلق المفاوضات بين الطرفين في نهاية كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦.
لكن المراجعة الأوروبية هذا العام تظل سورية المعاناة والأخطار. فالصور التي لصقت بالذاكرة كثيرة وبعضها لا يمحى في وقت وجيز.
«انقلب علينا الزمن»
كان الوقت غروباً تغطيه السحب، والرياح تهب باردة، في المقطع الترابي الذي يفصل بين مقدونيا وصربيا. آلاف يشقون كل يوم معبر الأحراش الحدودي (الحدود الخضر) بين البلدين. كل منهم يسارع الخطى، قبل نزول الليل، حتى يصل إلى بلدة «بريشيفو» على الجانب الصربي من الحدود مع مقدونيا، لعله يفوز بمقعد في أول باص يقله إلى «توفارنيك» في كروايتا، ومن هناك قد يواصل طريقه إلى ألمانيا أو السويد.
كان من الصعب على المراسلين السير معهم من دون الشعور بالهموم التي تدفع الغني والفقر والرجل والمرأة والمسن والمراهق والمريض والرياضي إلى القفز في البحر هروباً من تركيا إلى أوروبا.
يغمرك شعور بالأسى عندما ترى سيدة تتكئ على رجل مسن، يسيران ببطء بين الحفر والطوب، واليد تستند إلى قطعة خشب. تقول بحسرة: «كل شىء صار مكشوفاً في التلفزيون. لا شيء مخفي. كنا نعيش عيشة ملوك وفجأة انقلب علينا الزمن ولا نعلم لماذا؟». وخلت من ملامح وجه المسنة السورية أي علامة ثراء أو حياة سابقة في الترف. زادت عباراتها في الشعور بالألم إزاء محنة اللاجئين الذين دفعتهم الحرب في بلادهم.
والتساؤلات حول أسباب ما حدث ويحدث في سورية تتردد بكثرة على لسان اللاجئين وهم يسيرون في طرقات البلقان من مقدونيا حتى كرواتيا مروراً في صربيا، أو الذين ينتظرون في محطة القطارات في ميونيخ.
في بلدة «بريشيفو» الصربية، وقف الآلاف في طوابير طويلة لا تنتهي. في المقدم كانت السلطات الصربية تسجل الواحد تلو الآخر بوتيرة دون مستوى التدفق الذي وصل إلى سبعة آلاف يومياً. وما لم يسجل الوافد فإنه لا يستطيع الحصول على أدنى الخدمات الصحية بما في ذلك شروط النظافة.
يصرخ صحافي سوري طالباً النجدة لأنه وزوجته وابنته المريضة والآلاف من اللاجئين ينامون بين المزابل والبرك في «بريشيفو». ولما بكوا ثلاثتهم انهارت مجموعة من الرجال من حولهم وبكى الجميع من شدة التعب والوقوف في طوابير طويلة يومين أو ثلاثة من دون أدنى مساعدة. لبت منظمة «أطباء بلا حدود» طلب مساعدته وعائلته لأن المرأة تعاني من مرض القلب وكذلك طفلتها. ودخلت العائلة إلى المخيم وبقي كثيرون يتحسرون.
«أحبك يا سورية»
في بلدة «توفارنيك» على الحدود بين كرواتيا وصربيا، يتواصل التدفق على مدار الساعة، أسابيع وأشهراً، على أمل العبور من دون توقف إلى النمسا ومنها إلى ألمانيا. وزاد الإحساس بالقرب من البلدين من الرغبة في مواصلة الطريق من دون توقف. وفي انتظار الحافلات، يفترش اللاجئون الأرض، يتزودون بالصبر، يحتمون من المطر تحت الأشجار وخيام البلاستيك. ويتلهى الصغار برسم مشاهد البحر والأمواج التي هزموها. وانفردت طفلة كردية برسم خريطة سورية وكتبت عليها، «أحبك يا سورية». واستعانت الفتاة ذات السنوات التسع بأبيها لكتابة الأحرف لأنها لم تتمكن من دخول المدرسة بسبب الحرب. تحفظ اللاجئ الكردي من شمال حلب عن شتم بلاده، بل بكت عيناه أسفاً على ضياع الوطن. صعدت الفتاة وأهلها الحافلة وألصقت خريطة حبها سورية على البلور، ثم اختفت في طابور الحافلات في الطريق إلى النمسا أو سلوفينيا.
في ميونيخ (ألمانيا)، لم تتوقف حركة القطارات الوافدة من النمسا على مدار الساعة والأيام طوال شهر أيلول (سبتمبر) ٢٠١٥، وفي الأسابيع التي تلته. يصل الآلاف في كل ساعة تقريباً فتحيطهم قوات الأمن في شكل منظم، من دون أي إزعاج أو سؤال. يقادون في طوابير إلى خلفية المحطة لإجراء الفحوصات الطبية الأولى بالنسبة للمرضى والمنهكين ثم تنقلهم حافلات إلى مخيمات الفرز الأولى. كثيرون كانوا فرحين يشكرون المستشارة أنغيلا مركل وبلادها التي فتحت الحدود أمام مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.
كثيرون فوجئوا بسعة صدر الألمان وقدرتهم على تعبئة موارد غير محدودة لاحتضان مئات آلاف الفارين من الحروب في بلدانهم وهم لا يشتركون مع الألمان في أي شيء باستثناء الإنسانية ومعاناة اللجوء التي عاشها الألمان أيضاً في نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم بلادهم من جانب الحلفاء بعد انهزام النازية. وقال مهندس سوري أمام زوجته وأبنائه الطلاب، في الحافلة التي كانت تقلهم من محطة القطار إلى مخيم مجهول: «لقد هربنا عندما يئسنا من أن الحرب ستطول أكثر وأكثر، وأن المجموعات المسلحة قد تقتحم دمشق وترتكب المذابح». لم يكن اللاجئ السوري يدافع عن النظام، بل يعبر عن يأس جزء من الطبقة الوسطى من طول الحرب التي أضحت على أبوب دمشق، قبل أن تتدخل القوات الروسية في نهاية شهر أيلول وتحول دون انهيار النظام.
مليون لاجئ
أزمة المليون لاجئ الذين دخلوا أوروبا في ٢٠١٥، شكلت تحدياً كبيراً بالنسبة للاتحاد ككل وللمشروع الأوروبي والقيم التي تضمنتها المعاهدة الأوروبية. ويساوي العدد القياسي أكثر من ثمانية أضعاف عدد الذين دخلوا تراب الاتحاد في ٢٠١٠. وتشير تقديرات منظمة الهجرة الدولية إلى أن ٤٩ في المئة من اللاجئين فروا من سورية و٢١ في المئة من أفغانستان و٨ في المئة من العراق و٤ في المئة من إرتيريا و٢ في المئة من كل من باكستان والصومال ونيجيريا و١٢ في المئة من دول أخرى. وعقدت الدول الأوروبية سلسلة اجتماعات استثنائية على مستوى القمة والوزراء المكلفين شؤون الأمن والخارجية لوضع ترسانة الإجراءات التي تمكن من التحكم في حركة التدفق والقيام بعمليات الفرز في مخيمات أولية تقام في الحدود الخارجية للاتحاد أي في اليونان وإيطاليا، حيث تقتضي معاهدة حرية التنقل (شينغن) واتفاقات اللجوء أن يتم تسجيل طلبات اللجوء في المعبر الأول في الحدود الخارجية.
لكن الأزمة فاقت قدرات اليونان المأزومة أصلاً على الصعيد الاقتصادي ولا تمتلك الموارد والبنى التحتية التي تمكنها من إنقاذ الآلاف في البحر واحتضان عشرات الآلاف في كل يوم. فتركت سبيلهم يعبرون إلى مقدونيا ومن هناك إلى كرواتيا عبر صربيا، ثم إلى أوروبا الغربية. ودخل اليونان في عام ٢٠١٥ أكثر من ٨٢٠ ألفاً وإيطاليا ١٥٠ ألفاً وبلغاريا ٣٠ ألفاً. ولم تتمكن الدول الأوروبية من تنفيذ أدنى التفاهمات في ما بينها في شأن تسجيل المهاجرين وطالبي اللجوء وتوزيعهم في ما بين الدول الأعضاء وفق مبادئ التضامن الأوروبية التي شكلت واحدة من أسس بناء مشروع الاندماج الأوروبي، خصوصاً ضم دول أوروبا الشرقية بعد سقوط معسكر وارسو وتفككه. واتفق القادة الأوروبيون، بعد مفاوضات ماراثونية، على توزيع ١٦٠ ألفاً في ما بين الدول الأعضاء. لكن مئتين فقط انتقلوا من اليونان وإيطاليا نحو الدول الأوروبية، بخاصة دول اسكندنافيا في الفترة من أيلول إلى كانون الأول ٢٠١٥.
المستشارة
عبثاً حاولت المستشارة الألمانية إقناع الدول الشرقية بالمشاركة في تحمل العبء. ورد عليها رؤساء حكومات هنغاريا وتشيخيا وبولندا وسلوفاكيا بأن اللاجئين «يريدون الذهاب إلى المانيا». ولم يترددوا عن تبرير رفضهم إيواء اللاجئين لأنهم مسلمون. لكن المستشارة ظلت عنيدة فرفضت نداءات اليمين والمحافظين من أجل إقفال الحدود أمام المهاجرين واللاجئين.
وأظهرت ريادة أخلاقية وسياسية على الصعيد الأوروبي وأمام أعين العالم لأن حدود بلاده ظلت مفتوحة أمام توافد اللاجئين وبلغ عددهم ٩٠٠ ألف في نهاية عام ٢٠١٥. ونالت مركل صدقية عالية إلى درجـة اعـتبار أوروبا محظوظة بوجوب المستـشارة قائدة وبوجود ألمانـيا قـوية. ومنحتها مجلة «تايمز» الأميركية باستحقاق صفة شخصية عام ٢٠١٥. وعندما يئست مركل من موقف شركائها في الاتحاد، التفتت، مدعومة من النمسا والمفوضية الأوروبية، نحو دول البلقان من أجل تسجيل اللاجئين قبل عبورهم وقبول عودة توطين رعاياها الذين دخلوا ضمن طوابير المهاجرين لأسباب اقتصادية.
واقتنعت المستشارة بأن تركيا تمثل مفتاح حل الأزمة. وأقنعت زملاءها في الاتحاد بتقديم تنازلات سياسية لفائدة تركيا تتصل بمفاوضات عضويتها في المستقبل في الاتحاد الأوروبي، وتزويدها مساعدات مالية بقيمة ٣ ملايين يورو في سنتين من أجل تأمين مساعدة اللاجئين السوريين، في مقابل أن تلتزم تركيا بوقف تدفق اللاجئين الذين ينطلقون من شواطئها.
في غضون ذلك، تنصلت هنغاريا من التزاماتها بمقتضى معاهدة «شنغن»، وحولت ضغط اللاجئين نحو كرواتيا وسلوفينيا التي لا تعد أكثر من مليوني ساكن، واضطرت إلى بناء سياج لحماية «الحدود الخض» والاستعانة برجال الأمن الأوروبيين للمساعدة على تأمين الحدود. واستعادت فرنسا وبلجيكا فرض المراقبة على الحدود الداخلية بعد تفجيرات باريس التي كشفت عن أن الانتحاريين في معظمهم أقاموا في ضاحية «مولينبيك» في العاصمة البلجيكية بروكسيل، وأن كلهم تقريباً تدربوا في سورية.
وأعلن البلدان، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، حال التأهب القصوى تحسباً لأعمال إرهابية قد تستهدف المحال والأماكن التي يؤمها الجمهور. وكشفت التحقيقات الأمنية أن عدداً من المشبوهين دخل ضمن طوابير اللاجئين بجوازات سورية.
وتفيد تقارير بأن ٣٠٠ ألف وثيقة سفر سورية وعراقية اختفت من الإدارات الرسمية بسبب الحرب. ويحاول تنظيم «داعش» و «القاعدة» و «خرسان» و «جبهة النصرة» تجنيد رعايا الدول الأوروبية من المقاتلين في سورية والعراق من أجل تنفيذ عمليات إرهابية بعد عودتهم إلى بلدانهم. وهو ما حدث في باريس وقد يحدث في مدن أوروبية وغيرها.