عودة حوادث الخطف والاغتيال إلى الواجهة تجبر العوائل البغدادية على ترك مدينتهم
الوسط – المحرر الدولي
تطول المشاوير في بغداد بسبب الاختناقات المرورية وازدحام شوارع العاصمة بالسيارات، وقد يستغرق الوقت لتقطع مسافة خمسة كيلومترات 45 دقيقة أو ساعة، وهذا ما يتيح الفرص للحديث مع سائق سيارة الأجرة، وفي أحيان كثيرة يتطوع السائق بفتح موضوع للنقاش قتلا للملل بسبب التوقف طويلا عند نقاط التفتيش أو اختناق مروري معين، مع أنه تم بالفعل اختصار الكثير من نقاط التفتيش ورفع الكثير من الحواجز الكونكريتية، باستثناء تلك الحواجز التي تسور بيوت المسئولين الحكوميين أو أعضاء البرلمان الواقعة خارج المنطقة الخضراء المحصنة، رغم توجيهات رئيس الوزراء حيدر العبادي برفعها وفتح الطرق أمام الناس ، وفق ما نقلت صحيفة الشرق الأوسط اليوم السبت (26 سبتمبر / أيلول 2015).
عند إشارة مرورية في عنق جسر الجادرية بجانب الرصافة من جهة جامعة بغداد وفي الطريق إلى حي المنصور في جانب الكرخ حيا سائق سيارة الأجرة شرطي المرور الذي بدا متعبا تحت أشعة شمس ساخنة للغاية. رد الشرطي التحية وأردف: «متى يفرجها الله علينا ونهاجر من هذا البلد؟».
خيبات الأمل التي يشعر بها المواطن العراقي كثيرة.. وهي خيبات متراكمة ومزمنة.. بدءا بالوضع السياسي أو ما يسميه السياسيون هنا بـ«العملية السياسية» مرورا بالأوضاع الأمنية وليس انتهاء بالحالة الاقتصادية خاصة أن العاملين، سواء في دوائر الحكومة أو القطاع الخاص، مصابون بهلع عدم الحصول على رواتبهم الشهرية بسبب العجز الكبير في الميزانية.
وأكثر الفئات العمرية شعورا بخيبة الأمل هم الشباب الذين صار جل حلمهم الهجرة إلى أوروبا بعدما وصلوا إلى حالة من اليأس من إيجاد فرص عمل مناسبة لهم تشعرهم بالاستقرار والاطمئنان على مستقبلهم. ويقول سائق سيارة الأجرة الشاب ثامر عباس، 32 سنة: «لقد تخرجت من جامعة بغداد، كلية الإدارة والاقتصاد (إدارة أعمال) منذ ما يقرب من سبع سنوات وبحثت عن أي فرصة عمل وفي أي مكان في دوائر الدولة لكن طلباتي كانت تصطدم بجدران تقديم الرشوة أو عدم انتمائي لأي حزب سياسي إسلامي خاصة»، وذكر أسماء وزراء ومسؤولين سياسيين ونواب عينوا أقاربهم في وظائف مرموقة مع أنهم لا يحملون سوى شهادات المتوسطة والإعدادية.
في المقاهي يجتمع الشباب حول خرائط توضح لهم الطرق التي سيتبعونها للهجرة نحو أوروبا، وخاصة إلى ألمانيا، ويتداولون فيما بينهم أبرز المصاعب التي قد تلاقيهم في مغامرتهم التي قد تكون الأخيرة إذا حالفهم سوء الحظ في بحر ايجة. وكي يعززوا بحثهم وإصرارهم فإنهم يتحدثون عبر «فيسبوك» أو «فايبر» مع أقارب أو أصدقاء لهم نجحوا في الوصول إلى أوروبا، ومن الطرف الآخر تصلهم التعليمات والنصائح من شباب مروا بالتجربة، بالمغامرة الصعبة، يدلونهم على الأشخاص (المهربين) المضمونين في تركيا الذين يتمتعون بسمعة جيدة كونهم نجحوا في تهريب أعداد كبيرة من العراقيين والسوريين عبر بحر ايجة إلى اليونان.
موضوع هجرة العراقيين تحول هنا إلى نكات مرة.. كوميديا سوداء يتداولونها عبر (فيسبوك)، ومن المشاهد الساخرة التي صورها بعض الشباب ووضعوها على (يوتيوب) صورة شاب يسبح في نهر ويتوقف ليسأل أحد الواقفين عند ضفة النهر عن الطريق إلى تركيا واليونان، ليكشف له الشخص الآخر بأنه يسبح في نهر الحلة بمحافظة بابل وأن عليه أن يواصل سباحته ليصل إلى اليونان.
وردا على هوس الهجرة الذي أصاب شباب العراق تطوعت مجموعة من النشطاء المدنيين من مدينة الناصرية في محافظة ذي قار (جنوب العراق) وقاموا بمسيرة راجلة قطعوا خلالها أكثر من 400 كيلومتر سيرا على الأقدام إلى بغداد وهم يرفعون لافتة تقول: «كي لا نهاجر». كان يفترض أن تصل المسيرة إلى المنطقة الخضراء وسط بغداد لتسليم رسالة إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي تطالبه بتوفير فرص عمل للشباب كي لا يهاجروا، لكنها اصطدمت بالحواجز الكونكريتية والأسلاك الشائكة والقوات الأمنية التي تحمي بوابات المنطقة الخضراء، فانضمت فيما بعد إلى مظاهرات ساحة التحرير وسط العاصمة.
ويرى الشاب حسن البياتي، 27 عاما، وهو من سكان منطقة الحارثية الراقية أن «الحكومة غير آبهة أو مهتمة بهم، وأن فئة الشباب ليست في حسابات البرلمانيين والوزراء أو رئيس الوزراء الذين يجب أن يحالوا على التقاعد لعدم تقديمهم أي شيء للبلد»، ويتساءل هذا الشاب الذي أكمل دراسة تكنولوجيا الحاسوب وبرمجياته، قائلا: «هل سمعت أن البرلمان أو الحكومة ناقشوا بجدية ظاهرة هجرة الشباب واقترحوا بدائل لإيقاف موجات الهجرة؟ يبدو كأنهم سعداء بالتخلص من شباب وكفاءات العراق ليبقوا هم يسرقون أموال البلد ويحصرون الوظائف في داخل العراق وخارجه في السفارات بأبنائهم وأقاربهم بينما نعاني نحن من الحرمان والبطالة». ويستطرد البياتي قائلا: «اضطر والدي لبيع سيارته الخاصة وسحب ما وضعه في المصرف من مبلغ لتأمين مستقبل العائلة وأعطاه لي ولشقيقي لنهاجر ونجد مستقبلنا في أوروبا، وهذا ما فعلته وتفعله غالبية العوائل، بل إن عوائل بأكملها باعت بيوتها وما تملك من عقارات أخرى وهاجرت.. هذا حرام بالفعل حرام.. ثم يتحدثون عن الكفاءات الوطنية وسبب هجرتها.. هذه نكتة سوداء».
ويتحدث مدرس للغة الإنجليزية عن زميل له هاجر أبناؤه الثلاثة دفعة واحدة، وقال: «عرفت هؤلاء الأبناء عن قرب وهم يتمتعون بمواهب علمية وفنية، كبيرهم مهندس معماري، والابن الأوسط رياضي معروف عربيا، والأصغر ممثل مسرحي موهوب وقدم أعمالا مسرحية في أوروبا.. هذا يعني أن العراق خسر ثلاث كفاءات ثمينة، وهذا نموذج أعرفه عن قرب وهناك لو دققنا في معلومات الشباب المهاجرين أو الذين ينوون الهجرة سنجد أن آلاف الأطباء والمهندسين والفنانين المبدعين تركوا البلد دون التفكير بالعودة».
ويضيف هذا المدرس قائلا: «المشكلة أن أحدا من وزارة التخطيط أو البرلمان العراقي لم يكلف نفسه إجراء مثل هذا البحث أو التفكير بطرق ناجعة لإيقاف موجات الهجرة التي تتصاعد أعدادها يوما بعد يوم».
وإذا كانت الأوضاع الاقتصادية وغياب فرص العمل والشعور باللاجدوى هي التي تدفع الشباب للهجرة، فإن شعور العوائل باللاأمان واللااستقرار هو الذي يجبر العوائل العراقية على الهجرة. فقد عادت حوادث الاختطاف والاغتيال إلى واجهة الأحداث في بغداد خاصة، إضافة إلى سيطرة الميليشيات على المشهد الأمني، واعتراف رئيس الوزراء خلال لقائه بقادة عمليات بغداد بهذه الحوادث التي اعتبرها «أعمالا معادية للبلد وتحديا للحكومة»، أقلقت الآباء والأمهات على مصير أبنائهم، خاصة، ومصيرهم كعوائل، عامة.
لكن هناك أيضا ما يمكن تسميته بالهجرة المعاكسة، أي عودة عوائل عراقية من أوروبا ولبنان والأردن والولايات المتحدة إلى العراق. وتقول زينة، وهي تدريسية في كلية العلوم بجامعة بغداد: «أنا عشت ما يقرب من عشرين عاما في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة وحصلت على شهادة الدكتوراه في علوم الحياة وقررت العودة مع زوجي إلى بغداد بينما اختار أبنائي البقاء هناك». وتدرس زينة تدرس اليوم في كلية العلوم بجامعة بغداد بعد أن حصلت بصعوبة على فرصة عمل هنا، وتوضح: «أساسا أنا كنت معيدة في جامعة بغداد قبل أن أترك العراق مضطرة وعندما عدت كان علي أن أصارع الروتين والوساطات للعودة إلى الجامعة رغم أني أحمل شهادة عليا وبالفعل تمكنت من ذلك». وتصف الحياة في العاصمة العراقية بأنها «ليست نموذجية أو جيدة جدا لكنها مقبولة لا سيما أن بغداد مدينتي التي ولدت وعشت فيها وأنا عراقية وأريد أن أقدم لطلابي خبرات علمية هم بحاجة لها.. نعم هناك الكثير من التحديات والمصاعب الخدمية والأمنية لكننا يجب أن نحاول إعادة الأمور إلى نصابها بقدر ما نتمكن».