ذكرياتي عن "عاصفة الصحراء"
دويتشه فيله
قبل خمسة وعشرين عاماً، في 2 أب/ أغسطس 1990، دخلت قوات نظام صدام حسين الكويت، ولم تخرج منها إلا بعد عملية "عاصفة الصحراء". محرر دويتشه فيله عماد مبارك غانم يروي ما شهده من هذه الحرب وكيف أنها غيرت مصير بلد إلى الأبد.
أتذكر جيداً ما حدث في ذلك اليوم، الخميس الثاني من أب/ أغسطس 1990، في صباح ذلك اليوم أيقظتني أمي، وكان ذلك في مدينة ميسان الجنوبية، قائلة: "احتل صدام الكويت". كنت حينها لم أتجاوز الخامسة عشرة من العمر بعد، لكني شعرت بالخوف الذي تملكها. سألتها: "من أين عرفت ذلك؟"، فلم تكن حينها هناك قنوات فضائية أو شبكة إنترنت موجودة، كما أن العراق كان شبه مقطوع عن العالم الخارجي. أجابتني قائلة: "اتصل بي أبوك من العمل وأخبرني بذلك".
وكانت مثل هذه المكالمات في العراق لا تخلو من المخاطر، لكن والدي توصلا خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية من حكم صدام حسين إلى نوع من اللغة السرية للتواصل، مما أتاح لهما حيزاً من الحرية الخفية خلال المكالمات الهاتفية المخترقة بالتصنت، فكانت أسماء الشوارع تتحول فاكهة وخضار، وأسماء الدول ورؤسائها إلى موديلات من السيارات والأحذية والأسواق. كانت مواضيع مهمة، ورغم كره وأمي - ربة البيت البسيطة - للسياسة، إلا أن السياسة تحدد في النهاية كمية المتوفر من الطعام الذي يمكنه أن تقدمه لي ولأخوتي.
أمسكت بجهاز الراديو الصغير علني أسمع الخبر من إذاعة الكويت. لكن جميع المحطات تقريباً كانت غارقة بالتشويش تماماً. ولم يكن يُسمع في الراديو الصغير سوى "البرنامج العام لإذاعة العراق": سلسلة غير منتهية من أغان الحرب الوطنية، التي تمجد "القائد صدام حسين" والعراق و"انجازات البعث".
وبين تارة وأخرى ينقطع هذا السيل ليهدر صوت المذيع مقداد مراد، منبهاً إلى أن بياناً هاماً للقيادة العامة للقوات المسلحة سيُذاع قريباً. واختيار مقداد مراد، مذيع صدام المحبب لسنوات طويلة، لإذاعة البيان جعل كل عراقي يشعر بأن مصيبة كبرى وقعت أو على وشك الحدوث.
تلاميذ المدارس يحملون الكلاشينكوف
ومن أجل معرفة حقيقة ما حدث، فتحت الراديو الروسي القديم الذي يملكه والدي، والذي طالماً جلس أمامه ليلاً ليستمع خفية إلى أخبار الإذاعات العالمية مثل هيئة الإذاعة البريطانية ودويتشه فيله وراديو مونت كارلو. وبالفعل عرفت أن قرابة مائة ألف جندي عراقي دخلوا الكويت محتلين.
لكن وسائل الإعلام العراقية ما برحت فيما بعد تتحدث عن "ثورة" كويتية ضد العائلة الحاكمة وأن "الثوار" عرضوا تشكيل وحدة مع العراق. وفي التلفزيون والصحف، وفيما بعد في المدرسة أيضاً، كان الحديث يدور حول "حكمة القيادة السياسية"، التي قادت في النهاية إلى "توحيد العراق التاريخي".
وبالنسبة لنا تلاميذ المدارس استُبدلت حصة الرياضة بدروس التدريب العسكري، بل وحصل الطلاب الأضخم بنية على بنادق كلاشينكوف، كان عليهم أن يحملونها كل يوم مع كتبهم إلى المدرسة. وبفخر كبير كان بعض تلامذة مدرستي يرددون كلمات المعلمين التي تؤكد أن "العراق بأضخم احتياطي نفطي وبمنفذ كبير على الخليج بات اليوم أقوى بلد في العالم".
عملية "عاصفة الصحراء"، التي انتهت بدمار العراق.
لكن الأمر لم يستغرق طويلاً، حتى أُستدعي الشباب إلى حمل السلاح مجدداً، وكان كل شخص في عائلتي يعرف أن الوضع كان أخطر مما كان عليه الحال في الحرب السابقة مع إيران. بل حتى أن ابن عمي، الذي لم يكن في الثمانية عشر من العمر بعد، أُوقف في الشارع، وأُرسل إلى الكويت فجأة مع قطعات الجيش الشعبي.
وفي الأسابيع التالية اختفت المواد الغذائية من رفوف المتاجر وأصبحت الأسواق خاوية بعد أن فُرضت العقوبات الاقتصادية على العراق. وعلى حين غرة لم يعد مرتب أبي "في أقوى بلد في العالم" يكفي إلا لشراء أربعة كيلوغرامات من الطحين وكيلو من السكر وكيلو من الرز. فتوجب علينا حينها أن نستغني عن وجبة طعام من أجل جمع مخزون صغير من الطعام خلال الحرب، فكل شخص كان على يقين بأن الحرب واقعة لا محالة.
الاستهزاء بالأمريكان
في مساء 16 كانون الثاني/ يناير جلست عائلتي أمام التلفزيون، من أجل معرفة رد صدام حسين على آخر النداءات الدولية التي طالبته بالانسحاب من الكويت تجنباً للحرب. لكن صدام قال إن العراق سيخرج منتصراً من "أم المعارك"، كما أطلق على حرب الخليج الثانية . وأتذكر جيداً كيف قال ساخراً وهو يتوسط أعضاء "مجلس قيادة الثورة" في اجتماعهم إن "كل راعي عراقي بإمكانه أن يسقط طائرات الأمريكان من السماء".
في ميسان، مدينتي الجنوبية الغافية على ضفاف دجلة، بدأت الحرب في ساعات الصباح الأولى بدوي هائل. فقد أصاب صاروخ الجسر "اليوغسلافي"، الذي يربط بين جانبي المدينة، ولا يبعد كثيراً عن بيتنا. اعترانا خوف كبير، حين جمعتني أمي وأخوتي تحت سلم المنزل، لحمايتنا من شظايا الزجاج القاتلة. وحين أتأمل تلك الأوقات اليوم، أعرف تماماً أن أمي كانت أمامها غاية واحدة فقط: إما أن نموت سوية أو نحيا سوية. ولم نحتمل البقاء في المدينة في ظل جحيم النار الذي كان يحرقها كل ليلة.
ثلاث رصاصات تنهي ربيع علي
بعد ليال طويلة قضيناها في الريف، كنا نسمع خلالها قصف الغارات الجوية على ميسان، انتهت الحرب في 28 شباط/ فبراير بتدمير أغلب مدن العراق وتحطيم قدرات صدام حسين العسكرية لكن نظامه بقي قائماً. وما أن وضعت الحرب أوزارها، حتى تبعتها انتفاضة شملت أغلب مدن العراق، واشترك فيها أخي الأكبر على أيضاً. كان السخط على النظام كبيراً والجوع أكبر، وكان علي يريد المساهمة في إسقاط صدام حسين.
لكن صدام كان أقوى من علي ومن جميع المنتفضين معه، في تثبيت أركان نظامه، فقُمعت الانتفاضة بقسوة ووحشية. وفي الثامن من آذار/ مارس 1991 اقتحم جنود من الحرس الجمهوري بيتنا، وأطلقوا ثلاث رصاصات نحو علي، فما أن أتم ربيعه الثامن عشر، حتى أنهت ثلاث رصاصات حياته.
وحين أجلس اليوم لتذكر تفاصيل هذه الفترة من حياتي أشعر أن بدء الحرب كان نهاية طفولتي. ومنذ ذلك الوقت قُتل مئات الآلاف من أبناء بلدي في الحرب والإرهاب الذي تلاها، صحيح أن نظام صدام أُسقط عام 2003، إلا أن العراق لم يعمه الهدوء حتى يومنا هذا، فما زال يتخبط بحثاً عن الاستقرار والأمن والأمل.
أعرف أن عام 1990 شهد الكثير من الأحداث التي استرعت اهتمامي أيضاً: كتوحيد شطري ألمانيا، فوز ألمانيا ببطولة كأس العالم لكرة القدم، إطلاق سراح نيلسون مانديلا من سجنه وإطلاق أول موقع على شبكة الإنترنت. لكن ذاكرتي ما زالت تحتفظ بتفاصيل ذلك اليوم: الخميس الثاني من آب/ أغسطس 1990. فهجوم صدام على الكويت، ما زال يعني لي شخصياً نهاية لسلام غض، لم أجده مرة أخرى إلا في مهجري في ألمانيا عام 2004.