لماذا يحرم غياب الطبقة الوسطى الدول العربية من التنمية؟
برلين - دويتشة فيلة
لماذا يحذر خبراء وصناع قرار في ألمانيا من خطر تراجع مكانة الطبقة الوسطى؟ ولماذا فشلت الدول العربية في تقوية طبقة وسطى تشكل الضمانة الأساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي؟ التحليل التالي يلقى بعض الضوء على ذلك.
تحت شعار "لقاء القادة والمفكرين" استضافت مدينة إيسن الألمانية في يونيو/حزيران 2015 مؤتمر الشركات المتوسطة في ألمانيا بحضور ممثلين عن أكثر من ألف شركة إضافة إلى عشرات الخبراء وصناع القرار. يأتي انعقاد هذا المؤتمر في وقت تزداد فيه المخاوف من تراجع مكانة الطبقة الوسطى التي تشكل عمود الاقتصاد الفقري في بلد يمثل نموذجا للنجاح الاقتصادي. ويعود الفضل الأكبر في هذا النجاح لهذه الشركات التي يشكل عددها ما يزيد على 99 بالمائة من مجمل عدد الشركات الألمانية وتشّغل أكثر من 70 بالمائة من العاملين، إضافة إلى دفع أكثر من ثلثي الإيرادات الضريبية للموازنة العامة. تضم الطبقة الوسطى، التي يعمل القسم الأكبر من المنتمين إليها في هذه الشركات بشكل عام، أولئك الذين تسمح لهم دخولهم امتلاك مسكن وسيارة أو أحداهما إضافة إلى رصيد في البنك وقضاء إجازات في الخارج وتدريس أبنائهم في جامعات النخبة. ويعد الأطباء والمهندسين والمحامين والفنانين والمبدعون من مختلف الفئات من المنتمين إلى هذه الطبقة.
مخاوف ألمانية على الاستقرار الاجتماعي
تلعب الطبقة الوسطى عبر التاريخ الدور الأهم للنهضة الاقتصادية والإبداع وضمان الاستقرار على الأصعدة السياسية والاجتماعية، فمنذ أيام الإغريق أكتشف الفيلسوف أرسطو هذه الأهمية إذا رأى أن للطبقة تأثيرا إيجابيا على عموم أفراد المجتمع كونها " تتصرف بعقلانية، ولا تستغل الفقراء ولا تحسد الأغنياء"، حسب رأيه. على صعيد ألمانيا، تشير دراسة موسعة عن الطبقة الوسطى أعدتها جامعة بريمن ومعهد البحوث الاقتصادية الألماني بتكليف من مؤسسة بيرتلسمان الألمانية إلى تراجع نسبة الألمان المصنفين في عدادها إلى أقل من 58 بالمائة بعدما كانوا أكثر من الثلثين أواسط تسعينات القرن الماضي. البروفسور اولاف جرو- سامبيرغ من بين الذين شاركوا في إعداد هذه الدراسة يصف هذا التراجع بالدراماتيكي كونه ينعكس "سلبيا على الوئام الاجتماعي ويزيد من تضارب المصالح بين فئات المجتمع"، على حد تعبيره. ويأتي هذا التراجع لأٍسباب عديدة أبرزها تزايد زخم العولمة في تسعينات القرن الماضي وما رافقه من انتقال لمؤسسات الإنتاج والخدمات عبر أوروبا والعالم، إضافة إلى الخطوات الليبرالية التي أدت إلى مزيد من الاستقطاب في الثروة لصالح الفئات الأكثر ثروة مقابل تزايد أعداد الفئات المتدنية الدخل والفقيرة التي تعتمد بشكل كلي أو جزئي على إعانات الدولة لتغطية متطلباتها المعيشية.
الدول العربية تضيع الفرصة
التراجع في مكانة الطبقة الوسطى في ألمانيا دفع جهات عديدة وشخصيات نافذة إلى دق ناقوس خطر تبعاته وإلى المطالبة بإجراءات تمنع هذا التراجع وتعزز هذه المكانة مثل تخفيض الضرائب والرسوم على الشركات والشرائح الاجتماعية المتوسطة. أما في الدول العربية، التي تفتقد أساسا إلى طبقة وسطى قوية، فركزت الدعوات منذ ثمانينات القرن الماضي على ضرورة تشكيل هذه الطبقة أو تعزيز دورها، لأن النهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي مرهون بحجم هذا الدور. ورافق هذه الدعوات جهود أثمرت جزئيا في نشوء فئات وسطى عُقدت عليها آمال عريضة في دول مثل مصر والأردن والمغرب وتونس ولبنان وسوريا والجزائر. غير أن هذه الدور ما لبث أن توقف أوائل القرن الحالي لأسباب، من أبرزها استمرار غياب التعددية السياسية والشفافية وحرية الرأي ودولة القانون. وهو الأمر الذي سمح بتحالف الفئات الوسطى الناشئة مع النظم الشمولية في بلدانها بشكل أدى إلى احتكار الأسواق ومنع توسيع نطاق هذه الفئات لتشمل غالبية أفراد المجتمع، كما هو عليه الحال في البلدان الصناعية أو الصناعية الناشئة في جنوب شرق آسيا، على حد تعبير البروفسور ديتر فايس، أستاذ العلوم الاقتصادية للشرق الأدنى سابقا في جامعة برلين الحرة. ويتم هذا التحالف من خلال علاقات اجتماعية وعائلية متشابكة ومصالح متبادلة يتم من خلالها حصر عطاءات المشاريع بالفئات المذكورة وتجيير القوانين لصالحها في إطار صفقات تفوح منها رائحة الفساد والمحسوبية وتحرم الفئات المبدعة والمجددة من أية فرصة للترقي الوظيفي والاقتصادي والاجتماعي. وهو الأمر الذي يدفع أعداد متزايدة من الأخيرة إلى الهجرة باتجاه الدول الصناعية الغنية. وتشكل هجرة العقول والكفاءات من مصر وسوريا والعراق خلال العقود الثلاثة الماضية أمثلة دامغة على بلدان كان بالإمكان الاعتماد على خبراتها الوطنية في التأسيس لاقتصاد متنوع يؤهل لدخولها إلى عالم الدول الصاعدة. أما الدول العربية النفطية وفي مقدمتها السعودية فهي تعتمد حتى الآن على ريع النفط أكثر من اعتمادها على مصادر دخل أخرى من صنع طبقات وسطى. وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على أول طفرة نفطية في عام 1974 جلبت احتياطات مالية ضخمة، فإنه لا يوجد دولة نفطية عربية واحدة استطاعت تنويع مصادر دخلها على غرار النرويج التي تحولت خلال أقل من ثلاثة عقود بفضل الاستخدام الرشيد للثروة النفطية من بلد زراعي ويعتمد على الصعيد البحري إلى دولة تعتمد على صناعات تحويلية وخدمات حديثة متنوعة تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية.
الاحتجاجات السياسية تعطي للأمن الأولوية
بعد اندلاع الاحتجاجات السياسية في إطار ما يسمى ثورات "الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وما رافقها من تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصبح الهاجس الأمني من أولويات الدول العربية. وعلى ضوء ذلك تزايدت حمى الهجرة في صفوف الكفاءات الوطنية باتجاه أوروبا وشمال أمريكا. غياب الاستقرار الأمني والتعددية السياسية والفشل في التأسيس لبناء نظم ديمقراطية وهجرة الكفاءات كلها عوامل تؤدي إلى تراجع الاقتصاد والركود والتضخم وتراجع مستويات الدخل واتساع دائرة الفقر بشكل يحرم الدول العربية من فرص تشكيل طبقات وسطى تضمن لها مستقبل آمن إلى أجل غير مسمى.