تركيا بين الاقتصاد والسياسة
في اعتقادي أن السياسة لا يمكنها أن تنفصل عن الاقتصاد بأي حال من الأحوال؛ والواقع الذي نراه في العالم كله أن الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي يصاحبه دائماً نمو اقتصادي، والعكس صحيح أيضا؛ فالدول التي تفقد الاستقرار تبدأ تدريجياً بفقد الاقتصاد. فالتاجر المحلي لا يمكنه المخاطرة بالاستثمار في بلده ما لم يكن مستقراً، هذا فضلاً عن المستثمر الخارجي فرأس المال جبان كما يُقال! وهذه المتلازمة ربما هي التي تدفع الدول للمحافظة على استقرارها السياسي كي تعطي أكبر فرصة لنمو اقتصادها ومن ثم سعادة مواطنيها.
في اسطنبول عقد «الموسياد» مؤتمره الخامس عشر تحت شعار «غيّروا الاقتصاد تغيّرون العالم»، و»الموسياد» من أكبر المؤسسات الاقتصادية في تركيا، وأصحابها يقولون إنها أكبر مؤسسة اقتصادية في أوروبا، وتضم في عضويتها ستين مؤسسة حول العالم. أما في الداخل التركي فيتبعها مئة وعشرون مؤسسة تجارية، أما عدد رجال الأعمال الأتراك المنضوين تحت لوائها فيبلغون حوالي سبعة آلاف تاجر يمثلون كافة الصناعات التركية.
ومؤتمرات «الموسياد» تعتمد أساساً على المعارض الضخمة التي تصاحبها، وفيها يعرض التجار الأتراك صناعاتهم المتنوعة على الزوار الذين يأتون من معظم دول العالم، وفي هذا العام ضمّ المعرض صناعات تركيا الحربية، ومنها الطائرات بدون طيار والدبابات وغيرها. وفي هذه المعارض تتم الصفقات بين البائعين وبين الراغبين في الشراء، وقد يزور المعرض من يود الاطلاع ومعرفة الصناعات التركية، وكذلك الفرص العقارية، وهذه تجد إقبالاً من الكثيرين لأسباب كثيرة.
ويعتمد «الموسياد» على فلسفة الأخلاق في العمل التجاري؛ فالتاجر يجب أن يكون مستقيماً لا يعرف الغشّ في أعماله، كما يجب عليه أن يعامل الآخرين بخلق حسن، ومن الأسس التي ينادي بها «الموسياد» عدم الاعتماد على الغرب في الاقتصاد، لأنهم لا يقدّمون شيئاً دون تحقيق بعض أهدافهم!
رئيس الحكومة التركية كان حاضراً في حفل الافتتاح، وكانت له كلمةٌ تحدّث فيها عن اقتصاد بلده وسياستها؛ وقد أكّد أن الدخل القومي لبلده تضاعف حوالي ثلاث مرات خلال اثني عشر عاماً. كما ذكر أيضاً أنه قام بعدة رحلات بغية تطوير الاقتصاد في تركيا، مؤكّداً أن تركيا أصبحت بلداً جاذباً للاستثمار لأنها تقف إلى جانب رجال الأعمال.
وفي كلمته أكّد على عدم عدالة الغرب في قضايا الارهاب، وذكر أمثلة على ما يجري في سورية والعراق ومصر وليبيا. وأشار كذلك إلى جرائم الصهاينة في المسجد الأقصى وأثر ذلك السلبي على السلام في المنطقة! وأكّد أن الغرب كان بإمكانه وقف المجازر التي تحدث في سورية لو أراد... لكنه لا يريد ذلك! وتساءل: كيف يمكن بناء حضارة تقوم على الظلم والاستبداد؟ كما أكّد أن بلده ستقف مع السلام والعدل مهما كلّف الأمر!
رئيس الوزراء التركي أحمد داود أغلو، كان حاضراً في حفل الاختتام، وأكد على أهمية الاستقرار السياسي للنمو الاقتصادي، وتحدث عن مستقبل تركيا الاقتصادي وكيف أن الدولة تخطط لهذا المستقبل بجدية لكي لا تقع في أزمات اقتصادية على غرار ما حدث في بعض الدول. وقال إن «الموسياد» ساهمت في بناء مستقبل تركيا الاقتصادي، وأنها مستمرة في هذا الاتجاه، والدولة ماضية أيضاً في دعمها لـ «الموسياد»، وهذا الدعم يعد دعماً للاستقرار الاقتصادي.
الشئ الذي أستطيع تأكيده أن الاقتصاد التركي ينمو بشكل جيد، وهذا النمو انعكس على حياة الأفراد وأسلوب عيشهم بصورة واضحة، والذي شاهد تركيا قبل عقدين من الزمن ثم شاهدها الآن سيلاحظ ذلك سريعاً. هناك تغير كبير في البنية التحتية وفي وسائل المواصلات، وفي المشاريع السكنية والتجارية، وفي قطاع السياحة الذي تقدّم بشكل كبير جداً. كما أن هناك إقبالاً كبيراً على الاستثمار في تركيا خصوصاً في قطاع العقار، وكل ذلك سيصب في مصلحة رفاه المواطن التركي.
أعود إلى مؤسسة «الموسياد» التركية التي تساهم بصورة كبيرة في العمل التجاري وتنميته في تركيا، فهذه المؤسسة تسعى لمد جسورها إلى كافة دول العالم وتخص منها الدول العربية والإسلامية، لأن رؤيتها تقوم على الاعتماد على الذات أولاً، ثم على الأقرب فالأقرب، ولأن تعتمد الصدق والأمانة والدقة في العمل - كما تقول - فهي تتوقع أن تساهم في تغيير نظرة العالم إلى الاقتصاد وطرق تنميته. فالربح - كما تقول - ليس هو الهدف وحده! وهنا لابد أن يكون الربح بطريقة مشروعة وأخلاقية وإنسانية، وهذا لا يتأتى إلا بإحداث تغيير في طريقة تفكير التاجر وأهدافه، وهذا ما تحاول «الموسياد» فعله مع منتسبيها ثم مع غيرهم بعد ذلك.
فكرة تعامل «الموسياد» التجارية هي فكرة نابعة من الإسلام وأهدافه في التجارة؛ وإذا استطاعوا تحقيق تلك الأفكار التي ينادون بها، فإنني أعتقد أنهم سيكتسحون العالم تجارياً؛ فالمستهلك لا يريد شيئاً أكثر من العدالة وحسن المعاملة والاقتصاد في الربح.
ومع الجهد الكبير الذي بذلته «الموسياد» في معرضها وفي الفعاليات المصاحبة له، إلا أن هناك تقصيراً في الإدارة سواء في طريقة التعامل مع بعض الضيوف، أو التعامل مع بعض المشاركين السعوديين في المعرض. ولعلهم يتداركون هذا التقصير في معارضهم القادمة. وشكراً لهم على الجهد الكبير الذي بذلوه لبلدهم تركيا وكذلك لكل المشاركين معهم.