دول الخليج... اتفاق بحاجةٍ إلى رؤية مستقبلية
كنت واحداً من الذين آمنوا أن الاختلاف بين دول الخليج لن يكتب له النجاح أو الاستمرار، وقد عبّرت عن رأيي هذا في مقالات متعددة وفي مناسبات كثيرة. وكانت قناعتي تلك مبنية على أن الكبار قد يختلفون في بعض الأحيان لأسباب يراها بعضهم تستحق ذلك الاختلاف، ولكن شعوبهم لا تتفق معهم في اختلافاتهم لاختلاف الرؤية والمبررات والمصالح - إلا شلة من المنافقين الذين انفضحوا وانكشفوا بعد الاتفاق وغيّروا جلودهم خلال ساعات معدودة - والسبب أن الشعوب ترى ما لا يراه حكّامها في مسألة الاختلاف مع شعوب أخرى خصوصاً في دول الخليج!
وببساطة شديدة، فإن كثيراً من الأسر التي تعيش في السعودية لها امتداد في قطر والبحرين والكويت وبقلة في الإمارات وعمان. والشيء نفسه ينطبق على أسر البحرين وقطر أو البحرين والإمارات أو قطر والإمارات أو الإمارات وعمان، ولهذا فمن المستحيل أن تتخاصم هذه الشعوب المترابطة أسرياً واجتماعياً، لأن حكامها غير متفقين على بعض القضايا السياسية. ولهذا فإن شعوب المنطقة كانت تتوقع نهاية قريبة وسعيدة لهذا الاختلاف الذي لا يخدم إلا أعداء المنطقة، وهذا ما حصل فعلاً بفضل وعي وحكمة قادة دول المجلس جميعاً والذي قاده خادم الحرمين الشريفين وأخوانه قادة دول المجلس.
والآن وقد انتهى الخلاف بحسب البيان التكميلي لقمة الرياض والذي يفترض بعده أن تعود المياه إلى مجاريها بين دول المجلس، لابد من طرح بعض القضايا التي عادةً ما تصاحب أي اتفاق دولي، وسبب طرحها أن البيان لم يذكر تفاصيل الاتفاق وإنما اكتفى بالعموميات. وربما كان هناك بنود مفصلة للاتفاق لم تعلن للناس، ولهذا فإن شعوب المنطقة تتساءل عن الضمانات التي تجعل الخلاف لا يعود ثانية، وهل الاتفاق اشتمل على تلك الضمانات أم لا. وبطبيعة الحال فإن من حق شعوب المنطقة أن تطرح أسئلة عديدة حول مشروع الاتفاق لأنه يتعلق بها وبمصالحها مباشرةً أكثر مما يتعلق بمصالح الحكام.
من الأشياء التي شاعت -وأنا أتحدث عن إشاعات- أن قطر تعهدت بعدم التدخل في شئون دول المجلس! هذا حسنٌ، ولكن قطر تؤكد أنها لم تفعل ذلك مطلقاً، فهل هناك أشياء لا نعرفها نحن وإنما قيل ذلك لهدف آخر؟ وإذا كانت المشكلة تتعلق بالسياسات الخارجية لدول المجلس، فهل الاتفاق ينصّ على أن تكون هذه السياسات متطابقةً تماماً؟ شخصياً لا أظن ذلك، بل ولا يمكن أن يحصل مادام أن لكل دولة وزير خارجية هو الذي يحدّد سياسة بلده الخارجية بالاتفاق مع قادة بلده! وفي هذه الحالة فإن كل دولة تبني سياستها الخارجية تبعاً لمصالحها، وهنا قد تختلف المصالح، وقد رأينا كيف أن عمان -وهذا مجرد مثلٍ- انتهجت سياسة مغايرة تجاه إيران تختلف عن سياسة بقية دول الخليج، ولم يكن فعلها مثار خلاف بين بقية دول المجلس، وهناك شواهد أخرى مماثلة ومن كل دولة، فما الذي استجد في نظر قادة دول المجلس فيما يتعلق بسياسة دولة قطر الخارجية؟
وما دمنا نبني تحليلاتنا على التوقعات - لعدم ذكر شيء محدد في بيان الاتفاق- فإن الشائع أن موقف قطر من الربيع العربي هو السبب في ذلك الخلاف! فقطر ساندت خيارات الشعوب في كل الدول بغض النظر عن الأحزاب أو الطوائف التي فازت في الانتخابات، واعتبرت ذلك فعلاً ديمقراطياً وأخلاقياً. كما رأت أن موقفها لا يعد تدخلاً في شئون دول المجلس التي كان لبعضها رؤية مغايرة عن رؤية قطر، إذ أن كل دولة كما قلت، تنظر إلى مصالحها أولاً وأخيراً! ففي هذا الوضع ما الذي سيستجد الآن؟ هل ستتغير سياسة قطر أم هل ستتغير سياسة الدول الأخرى؟ أم ستبقى الأمور كما كانت عليه من قبل، أي أن كل دولةٍ تفعل ما تراه مناسباً لمصالحها؟
ونحن عندما نطرح هذه الأسئلة فإنما نتطلع إلى التأكّد من عدم عودة الأمور إلى الخلاف الذي فرحنا كثيراً بانتهائه، وشخصياً فإنني أعتقد أن طبيعة الأمور تقتضي أن كل دولة لها سياستها الخاصة، وهي التي تحدّد طبيعة علاقاتها الخارجية مادامت هذه العلاقات لا تضر بشكل مباشر بالدول الخليجية الأخرى. ولعل وجود قاعدة أميركية في البحرين، وفرنسية في الإمارات، وأميركية في قطر -وهذا مجرد مثل- يؤكد أن المصالح هي الغالبة في تحديد أولويات كل دولة، ولم يكن ذلك مثار اختلاف بين دول المجلس سابقاً، ومن الأفضل أن لا يكون مستقبلاً.
وقيل إن مسألة التجنيس كانت حاضرةً أيضاً في تلك الاختلافات! وشخصياً -إن كان هذا صحيحاً فهو مثار استغراب كبير- فهذه المسألة تفعلها كل دول العالم كما تفعلها دول الخليج أيضاً! فالبحرين أعطت جنسيتها للآلاف ومثلها الإمارات -وإن كانت بشكل أقل كما أعرف- وهكذا بقية دول المجلس، إذ أن لكل دولة سياستها في هذه المسألة، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الأمر كما قيل، فلماذا الاعتراض على قطر تحديداً؟ قيل: إن قطر أعطت جنسيتها للخليجيين وهذا هو السبب؟ قلت: إن كان الأمر كما قيل فهذه مصيبة أعظم وأكبر! فنحن في دول الخليج وبعد حوالي ثلث قرن من عمر دول مجلس التعاون، نتطلع إلى وجود اتحاد كامل بين دول المجلس بحيث يعامل كل خليجي في أي دولة خليجية وكأنه في دولته، من حيث العمل والراتب والتملك والتجارة وكل شيء دون استثناء. فإذا كان منح خليجي جنسية دولة خليجية أخرى مثار اختلاف بين دول المجلس فهذا يعني أن هذه الدول ستحتاج إلى وقت طويل لكي تحقق شيئاً ذا قيمة لمواطنيها، وهذا يعني أيضاً أن الصورة القاتمة لما حققته دول المجلس لمواطنيها طيلة ثلث قرن ستزداد قتامة، وهذا سيؤثر على مسيرة المجلس في رؤية المواطنين الذين تطلعوا إلى الكثير الكثير عندما أعلن عن قيام المجلس، ولكن كثيراً من آمالهم تراجعت، ومن حقهم على قادتهم أن لا يخيبوا آمالهم. فإذا كان منح جنسية دولة خليجية لمواطن خليجي يحدث أزمة بين دول المجلس فهذا مؤشر مؤسف ومحبط لتطلعات مواطني دول المجلس التي كان سقفها عالياً لا يقف عند حد التجنيس، بل يتعداه إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
هناك تحديات كثيرة تواجه دول المجلس، وما لم تكن هذه الدول متساندة فقد تتعرّض لخطر كبير؛ فهناك خطر الدولة الإسلامية، وهي إسلامية بالاسم فقط؛ وهناك خطر الحوثيين وهم لا يقلون عنها سوءًا وأطماعاً في بلادنا؛ وهناك المطامع الإيرانية التي تحدّث عنها بعض كبارهم بمنتهى الوضوح خصوصاً بعد استيلاء الحوثيين على صنعاء وغيرها. وبطبيعة الحال هناك خطر الصهاينة على بلاد العرب كلها ومنها دول الخليج، وهذا خطر حقيقي لا مجال للتشكيك فيه، وتاريخ الصهاينة وواقع حالهم يؤكّده.
هذه المخاطر وغيرها تقتضي من دول المجلس أن تكون متكاتفة بشكل كبير لحماية دولها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والسيادية، وما لم تفعل ذلك فستكون كلها معرضة للخطر؛ فالحق في هذه الأيام للقوة وحدها، أما العدالة وحقوق الانسان -وبقية المسميات الأخرى- فقد أصبحت حديثاً يستخدمه البعض لتحقيق مصالحه، خصوصاً الأقوياء، ثم ينتهي كل شيء بعد ذلك. وهذا الواقع يؤكد أن القوة العسكرية والاقتصادية هي التي تحقّق الأمن والاستقرار لكل دول الخليج، أما الاعتماد على الآخرين فهو وهمٌ ثبت فشله؛ فالآخرون لا يريدون من الخليج إلا الاستيلاء على خيراته، ومن مصلحتهم أن يبقى الاختلاف موجوداً وكبيراً، وربما حرصوا على المساهمة في استمراره.
الاتفاق الذي حصل كان له أثر طيب في نفوس الخليجيين جميعاً، أما تلك الفئة المنافقة التي كانت تعبّر عن دناءة كبيرة في أقوالها، فقد ذهبت إلى مزبلة التاريخ، وستبقى في تلك المزبلة مهما حاولت أن تغيّر جلدها النتن، ولعلها تكون عبرة لغيرها.
الشكر لكبير الخليجيين خادم الحرمين الشريفين ولسمو الشيخ تميم ولكل قادة الخليج الذين أسهموا في تقريب وجهات النظر وإعادة الأمور لما كانت عليه حرصاً على خليجهم وعلى مستقبل بلادهم وشعوبهم.