الأقصى وحكاية «هرمجدون»
هرمجدون وتنطق أحياناً «أرمجدون»، كلمة عبرية تعني «جبل مجيدو»، وهذا الجبل يقع على بعد تسعين كم شمال القدس، ويؤمن بعض اليهود والنصارى أن هناك معركة كبرى بين الخير والشر ستقع في منطقة الجبل ينتصر فيها الخير تمهيداً لخروج المسيح المخلص ثم تقترب نهاية العالم.
ويتفق الذين يؤمنون بوقوع هذه المعركة أنها لن تقع إلا إذا قام هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، لينزل عليه المسيح المخلص، ثم يختلفون بعد ذلك؛ فاليهود يعتقدون أنه سينزل ليجعل اليهود سادةً للعالم ويقضي على خصومهم، أما المسيحيون المتصهينون فيرون أنه سينزل ليقتل اليهود والمسلمين لكي يكونوا هم سادة الدنيا! ويعتقدون أيضاً أن نزوله مرتبط بحدوث فوضى عالمية وانتشار الخوف والاضطراب بين الناس، فهو ينزل لإعادة الأمن والاستقرار ولكن تحت مظلة المسيحيين الذين سيسودون العالم بعد فناء الأجناس الأخرى!
هذه الحكاية تفسّر بوضوح ما يقوم به الصهاينة من هدم لأساسات المسجد الأقصى ليسهل هدمه مستقبلاً، وكذلك منع المسلمين من الصلاة فيه إلا بحسب شروطهم، وأيضاً كل الإجراءات الأخرى التي يقومون بها لإبعاد المسلمين عن المسجد بصورة نهائية. فإذا تم لهم ذلك قاموا بهدمه ومن ثم قاموا ببناء هيكلهم مكانه!
وحكاية الهيكل والمعركة تفسّر أيضاً مواقف الحكومات الأميركية من الصهاينة ومساعداتهم المستمرة لهم لكي يتسنى لليهود هدم الأقصى ثم بناء الهيكل على أنقاضه، وهذا عندما يتم، ستتحقق أحلام المسيحيين في سيادة العالم والتخلص من أعدائهم اليهود والمسلمين على حد سواء!
وبالمناسبة فإن المسلمين أيضاً يعتقدون أن هناك معركة فاصلة بينهم وبين اليهود وأعوانهم، وأنهم سينتصرون فيها وبعدها ينزل المسيح (عليه السلام) ويسود الإسلام في العالم، وعندها تقترب القيامة ونهاية العالم.
وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس نادت بفكرة الفوضى الخلاقة العام 2005، وقالت إن هذه الفوضى تتحقق بالحرب على الإرهاب (صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية). وهذه الفوضى لابد منها كي ينزل المسيح بحسب معتقدات المسيحيين المتصهينين. وربما هذه المعتقدات تفسر الحرب المزعومة على الإرهاب التي تدعيها أميركا والتي تعتقد أنها تسهم في إحداث الفوضى في أماكن كثيرة في العالم، وذلك كي يمهدوا لنزول المسيح المخلص.
الوضع العربي الراهن شجّع الصهاينة كثيراً على استغلاله لكي يمضوا سريعاً في تهويد القدس ومن ثم هدم الأقصى وبناء الهيكل؛ ومعروفٌ أنهم منعوا المسلمين من الصلاة فيه بعض الوقت، وأيضاً كانوا لا يسمحون للصلاة فيه إلا لكبار السن. كما أنهم دنسوه مرات عديدة، وحاولوا تقسيم الصلاة فيه ما بين المسلمين واليهود، وفوق هذا كله بدأ بعض قادتهم يهددون بإبادة الفلسطينيين وإخراجهم من فلسطين! ومن هؤلاء موشيه فيجلين، وهو أحد الشخصيات المرموقة في مجموعة أمناء جبل الهيكل حيث طالب بإبادة الفلسطينيين في غزة، وهو يرى أن المعركة من أجل السيادة اليهودية على جبل الهيكل هي معركة عالمية ضد الإسلام!
أما باروخ مارزل فقد طالب بتدمير الأقصى وتنظيفه من الإرهابيين (يعني الفلسطينيين)، ثم بناء الهيكل! ونحن نعرف أن حركة أمناء جبل الهيكل التي لها نفوذ كبير في «إسرائيل» تطالب بفرض السيادة اليهودية الكاملة على جبل الهيكل (الأقصى) باعتباره أقدس مكانٍ لليهود في العالم.
لاشك أن الأقصى يمر بخطر شديد هذه الأيام، وإذا قلت الأقصى فإنني أعني فلسطين كلها، فضياعه يعد ضياعاً لفلسطين وربما غيرها بعدها، وقد كانت حادثة إطلاق النار على المتطرف الصهيوني الحاخام الأميركي اليهودي يهودا غليك، بداية للحرب التي أرادتها «إسرائيل» على الفلسطينيين؛ فقد كان هذا الحاخام من أشد دعاة هدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه، وكان يشجّع الصهاينة على القيام بذلك الفعل، وكانت أفعاله القبيحة سبباً في استفزاز ذلك الشاب الذي أطلق النار عليه (لم يمت)، وقد استغلت حكومة «إسرائيل» هذه الحادثة في القتل والسجن وهدم المنازل وأيضاً التضييق على المسلمين في الصلاة في الأقصى.
الاستفزازات اليهودية تجاه المسلمين ومسجدهم جعل ملك الأردن يستدعي سفيره في تل أبيب احتجاجاً على الانتهاكات اليهودية للمسجد الأقصى، ونتيجة لهذا الموقف وربما لخشية الحكومة اليهودية من انتفاضة فلسطينية جديدة لا يريدها نتنياهو في هذه الفترة، وافق في اجتماعه مع ملك الأردن ووزير الخارجية الأميركي على السماح للفلسطينيين بالصلاة في الأقصى ومن كل الأعمار! ومع أن هذا السماح حق طبيعي لكل فلسطيني ويجب أن لا ينظر إليه على أنه منة من نتنياهو، إلا أنه لم ينفذه بشكل كامل، وهذا ما جعل الاضطرابات والمواجهات بين الفلسطينيين والصهاينة مستمرة.
الشيء المؤكد أن الصهاينة لن يتوقفوا عن ممارساتهم الإجرامية بحق الأقصى وبحق المدافعين عنه، والوضع العربي المتدهور يشجعهم على المضي قدماً في ارتكاب هذه الجريمة التي تزيد العرب والمسلمين ذلاً إلى ذلهم. فالأقصى ليس حكراً على الفلسطينيين وحدهم؛ فهو مسرى رسول المسلمين جميعاً، وفي القدس سيظهر نبينا عيسى (ع)، ومن هنا فإن كل مسلم على وجه الأرض مسئول عن حماية المسجد الأقصى بكل ما يملك من إمكانات مادية ومعنوية، وإذا كان المسلمون مسئولين عن حماية الأقصى، فإن المسئولية الأكبر تقع على حكوماتهم ومنظماتهم المختصة، وليس مقبولاً من هذه الحكومات البقاء صامتةً إزاء ما يجري من تهويد منظم للمسجد الأقصى، فالمواقف المتخاذلة قد تثير شعوبهم عليهم، وقد تدفع البعض إلى الانضمام للجماعات المتطرفة التي تتذرع ببعض مواقف دول العرب لتجنيد شباب في صفوفها بحجة أن تلك الدول تخدم الأهداف الغربية أو اليهودية.
وإذا كان الصهاينة ومتطرفي المسيحيين المتصهينين يتخذون من أسطورة «هرمجدون» ذريعةً لهدم الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم مكانه، فإن لدى المسلمين حقيقةً ثابتةً، هي أن هذا المسجد الذي له خصوصية عندهم هو مسجدهم ومسرى نبيهم، وأن واجبهم الدفاع عنه بكل ما يقدرون، كما أن الحقائق التاريخية الثابتة تؤكد أنه لا هيكل لنبي الله سليمان في هذا المكان، وأنه لا حقّ للصهاينة في القدس ولا في غيرها.