إنهم يعشقون العبودية!
قال نجيب محفوظ : (ليس عجيباً أن فرعون ادعى الألوهية إنما العجيب أن شعب مصر صدقوه).
وقد يكون من الأعجب أن بعض الناس يستعذبون العبودية ويدافعون عنها ولا يرون لهم وجوداً إلا فيها، وقد حكى لنا التاريخ صوراً متعددة من ألوان العبودية وكيف أن بعض الحكام استعبدوا شعوبهم في ظل دعاية إعلامية ضخمة كان يقودها غالباً رجال الدين ومن على شاكلتهم، مقتنعين بما يفعلونه تارة ومستفيدين منه تارة أخرى.
ومما حكاه القرآن الكريم وفسره التاريخ مايمكن تسميته بـ (الحالة الفرعونية)، فكثير من فراعنة مصر دعوا الناس لعبادتهم، ومن هؤلاء رمسيس الثاني الذي استعبد بني إسرائيل، وكان يقول - كما ورد في القرآن - (أنا ربكم الأعلى)، وقد قاتل موسى عليه السلام عندما دعاه لترك ماهو عليه وعبادة الله وحده لكنه رفض ذلك كما رفضه كهنته والمقربون إليه، والغريب في الأمر - كما قال نجيب محفوظ - أن الكثيرين كانوا يعبدونه كما يعبدون غيره بقناعة وحب شديدين، وقد نقل التاريخ قصة رواها سنوحي طبيب الفرعون (أمفسيس) وملخصها: أن هذا الفرعون كان طاغية مستبداً وفى ذات مرة طلب من الوجيه أخناتون أن يعطيه كل مايملكه حتى زوجاته وقبل أخناتون لكنه طلب من الفرعون أن يبقي له داره وشيئاً من المال يستعين به، فغضب الفرعون من طلبه وأمر بقطع يديه ورجليه ورميه ليموت في الشارع ليكون عبرة لغيره. قال سنوحي: عالجت الرجل وتمكنت من إنقاذ حياته وكنت ألاحظ أنه كان يتمنى الانتقام من الفرعون ولو على يد غيره، ومات الفرعون بعد ذلك وحضر سنوحي مراسم الدفن وكان الكهنة يلقون الخطب في تمجيد الفرعون وحبه لمصر وللمصريين وكانوا يثنون على عدله ورحمته بشعبه. يقول سنوحي: سمعت الحاضرين يجهشون بالبكاء وسمعت أحدهم يبكي أكثر منهم بكثير فالتفت لأرى من هو ففوجئت أنه اخناتون ذلك المعوق الذي جاء مشدوداً على ظهر حمار ولما رآني مأخوذاً بما أراه منه قال بصوت مرتفع: لقد كان أمفسيس على حق فيما فعله بي لانني لم أستجب إلى أوامر الإله وهذا هو جزاء كل من يعصي الإله الذي خلقه وأحبه وأي سعادة أعظم للمرء من أن ينال جزاء أعماله الذي يستحق على يد الإله لا على يد غيره. لقد أراد أن يقول لنا الطبيب سنوحي إن أكاذيب الكهنة ورجال الدين وتزويرهم للواقع هي التي تؤثر على عامة الناس وتجعلهم يستعذبون العبودية ويمارسونها بحب كبير، وهذا هو الدور الذي تقوم به الصحافة حالياً بمؤازرة رجال دين ومثقفين وتجار وغيرهم.
لقد انتقلت فكرة العبودية للحاكم من الفرس والهنود والصينيين إلى العرب، فقد كانت تلك الشعوب تقدس حكامها ولا تسمح بمناقشتهم في أي أمر يريدونه وإلا تعرض للموت والهلاك، وكان رجال الدين - خاصة - يحذرون من من سطوة الحاكم باعتباره إلهاً أو جزءاً من الإله ، وقد حرص حكام الدولتين الأموية والعباسية على تكريس تلك المفاهيم بين شعوبهم ووجدوا من يعطيها الغطاء الديني والسياسي، وقد تجاهل هؤلاء قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم)، كما تجاهلوا الحرية التي أعطاها الله سبحانه للبشر جميعاً حتى في الحرية الدينية، قال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولهذا فالقبول بأي نوع من أنواع العبودية لا يتفق مع أبسط قواعد الإسلام ويتنافى مع كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية التي كفلها له الدين - كل الأديان - وكذلك القوانين البشرية.
الأوروبيون في القرن الخامس عشر عرفوا مبدأ العبودية للحاكم؛ فظهر عندهم ماسمي بـ (الحق الإلهي) الذي رعاه الكهنة ودافعوا عنه بقوة، وقد اعتمد عليه بعض ملوك أوروبا في استعباد شعوبهم، ومن هؤلاء الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، والملك تشارلز الأول ملك بريطانيا، فقد كان لهما سلطة مطلقة ولم يكن للشعب أي حق في مناقشتهم في أي شيء، ولكن هذه العبودية انتهت بعد الثورة الفرنسية كما انتهت معها سلطة رجال الدين الذين كانوا يمهدون للحكام ويسوغون لهم كل أنواع الظلم والاستبداد ويلبسونهم لباس الدين والتقوى.
ذهب رجال الدين في أوروبا وذهبت معهم أكاذيبهم لكن الإعلام الهابط وفي كل أنحاء العالم حل محلهم وقام بمهنة الكذب والتدليس وصنع شخصيات مقدسة لا تقبل النقد ولا المناقشة، وحاولوا إقناع الشعوب أن تلك الشخصيات هي هبة من الله لهم، وأن عليهم شكر الله على تلك النعم والقبول بها والرضى وبكل فرح وسرور، ونجح الإعلام مرة وأخفق مرة أخرى لكن العبيد هنا أو هناك أثبتوا أنهم حاضرون وبقوة وأنهم سعداء بتلك العبودية التي تملأ جوانحهم وقلوبهم.
الواضح أن المجتمعات التي تقبل العبودية هي مجتمعات لا حياة فيها، وأنها عاجزة عن بناء أي لون من ألوان الحضارة، كما أنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أو غيرها، وهذا الواقع ليس مستغرباً على المستعبدين فهؤلاء ليس لهم قدرة على العمل والإنتاج العلمي والعملي وإنما كل مايمكنهم القيام به هو خدمة أسيادهم وتنفيذ مطالبهم والتسبيح بحمدهم.
إن أسوأ أنواع الاستعباد هو ذلك النوع المغلف بالدين؛ فالمستعبَد في هذه الحالة يتلذذ بعبوديته، ويتقرب إلى ربه بفعلها، وينقلها إلى أولاده وأحفاده، والأسوأ من ذلك أن هذا النوع من العبيد هو الذي يسهم في خلق معبوده ويمده بطاقة القوة والبقاء وممارسة سلوكه الاستبدادي ضد شعبه.
رأينا حكاماً يمتطون ظهور ورؤوس شعوبهم وسط تصفيق هذا الشعب وفرحه، ورأينا شعوباً تقبل أيدي وأرجل حكامهم وربما ركبهم في بعض الأحيان، وأيضاً كانوا سعداء بهذا العمل، وهناك أنماط متعددة من هذا النوع من العبودية يظهر في بعض الدول وبمباركة من الحكام وكهنتهم وإعلامهم.
العبيد لم ينفعوا أنفسهم ولن ينفعوا حكامهم قطعاً؛ ولهذا فمن مصلحة المجتمعات الحية أن تنفي خبثها وأن تحافظ على أصالتها كي تكتب لها الحياة الحقة ولكي تعيش إنسانيتها كما أراد الله لها أن تعيش، أما العبيد فهم في مزبلة التاريخ وسيبقون فيها حتى تعود لهم إنسانيتهم.