سبحانك ربي من هؤلاء!
وقفت متسمراً، أرقب بعين مليئة بالألم والأمل شباباً توزعوا في الغرفة الضيّقة كما تتوزع زهور ربيعية تتحدى هياج الرياح وقساوة اليباب ونهش التصحر. وقرأت في عيونهم صخب السنين العجاف، وسمعت دويّاً منبعثاَ من حنجرة القهر أنينا، قلت رباه: من هؤلاء؟ من أين جاءوا؟ هل أنا في حلم مكتنز بالحزن، أم أنا مازلت في عالم الشهادة؟ هل هؤلاء بحرينيون؟ مَنْ أمهاتهم؟ مَنْ أسرهم؟
مَنْ انقذهم من واقعهم؟ جلست ساعتين فارغ الفاه، افرك عيني مندهشاً، متألما وأنا اتلمس دما يتصبب من كلماتهم، وجمرا يتشظى من حروفهم الحبيسة، وجراحهم الساخنة شباب في عمر الزهور راحوا يبحثون عن بصيص أمل يخرجهم من ألم الإدمان، رجعوا إلى حضن الوطن. وعادت الروح بعد سنين من الضياع والتشرد على محطات الغربة الاجتماعية وقساوة الزمن وتنكر القريب.
دعاني أخي العزيز أبوحسين للقاء بهم في مركز مدينة عيسى الصحي، للجلوس مع مجموعة من الشباب البحريني العائدين من رحلة عذاب الإدمان إلى التدثر بحريرية الوبة والاغتسال بمطر الحب الإلهي. عددهم يقارب الـ شاباً. أحد هؤلاء لا يتجاوز عمره السابعة عشر ربيعاً. كل واحد راح يسرد لك تاريخ الآلام الذي عاشه، وجع السنين، الهروب من البحرين إلى الخارج، هرباً من الواقع، يحكون لك علاقتهم مع الأهل مع المجتمع، مع المرض، وكذلك مع رحلة الشفاء والعودة إلى الحياة السعيدة. بعضهم يحتفل سنوياً بعيد ميلاد جديد بمناسبة عودته إلى فردوس التوبة الالهي. عرفت واحدا سيحتفل هذا العام بالعيد الـ عاماً من التوبة والرجوع إلى حيث الحياة الحقيقية. أول ما يلفت انتباه الزائر لزمالة المدمنين المجهولين هو صدقهم وانسيابيتهم وفطرتهم التي تتفجر حبا وحنا ورحمة وطهارة بعد العودة. كلماتهم تقطر إنسانية وطيبة وعفوية. (منكمشين) على بعضهم (كتكمش) الطفل بثدي أمه، يستوطن قلوبهم حب الرحمة تجاه بعضهم كما يستوطن السكر شرايين العنقود يتحدوثون بأدب، ولهم أسلوبهم الخاص في التحية، وتوزيع الحديث، فتحسبهم ملائكة. شيء لهم أره في حياتي ولا في محراب الصلوات، ولا في طرق الدراوشة والصوفيين. انه سكينة الوهج بعد لعلعة اللهب، وهدوء الريح بعد الإعصار المدوي. راح الشاب الصغير يتحدث عن تجربته، وما بين انطلاقة الحديث واحتباس الدمع تلكأت كلماته الحبيسة على شفاهه، فجأة صمت معلنا رفع رايته البيضاء قائلاً: لا أستطيع أن أكمل حديثي. كابتسامة طفلة وطمأنينة حمامة استسلم للصمت خجلاً. بعده تحدث أخوه الذي جاء به إلى زمالة المدمنين المجهولين للعلاج، كان منفعلاً وهو يتحدث عن أخيه وسرعة تأثره بهذا البرنامج، وراح يحدثنا عن أخيه الصغير كيف انتقل إلى رحلة الإيمان والشفاء. من طقوسهم أن يتواصلوا دائماً ليقووا أنفسهم من أي انتكاسة محتملة، يسألون عن بعضهم، يقيمون رحلاتهم الخاصة ليعوضوا أنفسهم عن سنين العذاب دعيت من قبلهم لرحلة في بستان للسباحة. قبلت الدعوة وتمنيت عليهم أن يسمحوا لي بحضور جلساتهم الشهرية العامة. لا أبالغ ولا أجامل - وصراحتي نقطة ضعفي - إذا ما قلت إني لم أشعر بطعم لقاء أو اتنشق رائحة الأمكنة والآزمنة الزكية كما تنشقته تلك الليلة وأنت ترى قناديل تكسرت على صخور الزمن الكئيب، ثم عادت لتضيئ مرة أخرى، على رغم عتمة المجتمع وقساوة المحاكم. يمتلكون كتبا خاصة تربوية وارشادية. تأثرت من شاب ينضح وجهه وسامة ولسانه صدقاً وقلبه حبّا وعاطفة وهو يحكي نقطة التحول قائلاً: بقيت سنين وأنا أبحث عن الخلاص، مهرولاَ في صحراء التساؤل: أين الله مما أنا فيه؟ كنت أضع اللوم على ربي، أبكي وأنا أواجه الموج، أتمنى من ينقدني من رحلة الضياع، لكني أخيراً وجدت الله في تغيير ذاتي وان نفسي هي سر شقائي، تحدثني نفسي عن هذا السم، لكن اتصالي بزمالة المدمنين المجهولين أخذت بيدي إلى التمسك ببصيص الأمل. أبوحسين هو مدير الجلسة وهو شاب ناجح انتقل من عالم الإدمان إلى عالم الحياة، يتحدّث بلباقة، وأريحية، حفر تجربته على الصخر اكاليل حب يوزعها على كل تائب. المعلومات التي تصلني - واسعى - لتوثيقها تشيب الرأس. سمعت عن لجنة أهلية أسست في قرية بحرينية في المنطقة الشرقية لاستيعاب أي شاب مدمن، نتمنى كل الأهالي دعمها. برنامج زمالة المدمنين المجهولين برنامج مقدس ملائكي يستحق الاحتضان، وان نقدم لمؤسسة كل ورود العرفان والترحم عليه، إذ انقد العالم، وزرع الأمل في عيون الآلاف من بني البشر. نقد الآلاف في أميركا وبريطانيا وإيران والخليج. لغياب التنسيق بين الوزارة بعض شبابنا البحريني يصاب بالانتكاسة نتيجة حكم قضائي قاسٍ خصوصاً أن بعضهم ثبت توقفهم عن التعاطى أكثر من عام ونصف وهناك ما يثبت ذلك. لكل تائب من أبنائنا خصوصاً من التقيت بهم تلك الليلة التي لن أنساها أقدم وردة حب، وأقول للمجتمع لا تقسوا على مدمن رجع إلى فردوس التوبة، بل استقبلوه وأعملوا على دمجه في المجتمع فهو غريق يبحث عن طوق نجاة في بر متلاطم من السموم. احتضنوه احتضان أم لوحيدها بعد زمن من الترحال والغربة والفراق.
شكر يقدم لمركز المؤيد على احتضان الشاب البحريني الذي كان على قائمة الانتظار لتأهيله. إن أمة التي فقدت ثلاثة من أبنائها تصلي ليل نهار للساهرين من الطاقم الصحي لتأهيل هؤلاء الشباب العائدين