الذكرى الأولى لرحيل المرجع الكبير
عامٌ مضى على رحيل المرجع الدِّيني الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله قدّس الله روحه الشريفة، ولا زال الحزنُ يسكنُ في قلوب المحبِّين والعاشقين.
عامٌ مضى ولازال هذا الرجلُ العظيمُ حاضراً في ذاكرة الأمَّة بكلِّ فكره وعلمه وتقواه وخلقه وسيرته وعطائه وجهاده.
لقد شكَّل تاريخاً لا يمكن أن يُمحى في مسيرة الزَّمن. كان عنوانَ مرحلةٍ سوف يبقى متميِّزاً وبارزاً، هكذا عَبْرَ التاريخ هناك رجالٌ يمثِّلون عناوين مرحلة عاشوها وطبعوها بكلِّ وجودهم وعلمهم وعطائهم، فالشيخ الطوسي يُمثِّل عنوانَ مرحلة، والعلاّمة الحلِّي يُمثِّل عنوانَ مرحلة، والشيخ الأنصاري يُمثِّل عنوانَ مرحلة والسَّيد الإمامُ الخميني يُمثِّل عنوان مرحلة، والسَّيد الشهيد محمد باقر الصدر يُمثِّل عنوانَ مرحلة، فكذلك السَّيد محمد حسين فضل الله يُمثِّل عنوانَ مرحلة.
وحينما نتحدَّث عن هذه النماذج، كونها تُمثِّل عناوين مرحلةٍ لا يعني أنَّها مِلكٌ لتلك المرحلة، بل مفتوحة على حركة الزَّمن والتاريخ والأجيال.
ما كان السيد محمد حسين فضل الله رجلَ فقهٍ فحسب بل كان رجلَ فكرٍ، ورجلَ أدبٍ، ورجلَ قلمٍ، ورجلَ منبرٍ، ورجلَ سياسةٍ، ورجلَ حوارٍ، ورجلَ جهادٍ، ورجلَ تجديدٍ.
لكي نقرأه هناك منهجان، المنهج الأول: القراءة المجزَّأة، أن نقرأه فقيهاً، أن نقرأه أصوليّاً، أن نقرأه مُفسِّراً، أن نقرأه مُفكِّراً، أن نقرأه مُربِّياً، أن نقرأه داعيةً، أن نقرأه أديباً، أن نقرأه سياسيّاً، هذا المنهج يحاول أن يعالج عنواناً خاصّاً، ممَّا يعطيه عمقاً ودقَّةً، واستيعاباً، بما لا تتوفَّر عليه القراءة العامَّة.
المنهج الثاني: القراءة الشموليَّة، وهي قراءةٌ لا تُعنى بعنوانٍ خاصٍّ، بقدر ما يهمُّها الشخصيَّة بكلِّ مكوِّناتها، وهنا تتزاوج العناوين من أجل إنتاج منهج واسع وشامل بما لا تقدِّمه القراءة التجزيئيَّة. وكلا القراءتين ضروريَّتان، فالأولى تمنحنا العمق والخصوصيَّة، والثانية تمنحنا التكامل والشموليَّة.
الفقيه المرجع السَّيد محمد حسين فضل الله غاب شخصاً وهو باقٍ مدرسةً، ومنهجاً، ومساراً، وهنا يجب على كلِّ المنتمين إلى هذه المدرسة، وهذا النَّهج، وهذا المسار، أن يُمارسوا دورهم في الحفاظ على استمرار السَّيد لا في شخصه، وإنِّما في مدرسته، ونهجه، ومساره.
صحيحٌ أنَّ ما خلَّفه سماحتُه من ثروةٍ كبيرةٍ ممثَّلةٍ في نتاجاته المطبوعة، وفي محاضراته المسموعة، وفي مشروعاته الشاخصة، وفي عطاءاته الوافرة، وفي أخلاقه، وهديه وروحانيَّته وتقواه وورعه وسلوكه المتميِّز هو التعبير الصادق عن هذه المدرسة وهذا النَّهج.
غير أنَّ هذا لا يعفي رموز هذا الخطِّ، وتلامذة هذا النهج من العمل الجادِّ على الدفع بمعطيات هذه المدرسة خشية أن تغيب بفعل الغفلة عن ذاكرة الأجيال، وعن حراك المسيرة، ويبقى الكتاب جامداً إذا لم تحرَّك مضامينه، ويبقى الخطاب راكداً إذا لم تفعَّل أفكاره، وتبقى المشروعات معرضاً للاستهلاك إذا لم يُجدَّد عطاؤها، وتبقى السِّيرة في حاجة إلى تحريك دائم.
كم من العلماء الكبار بقوا مدفونين في كتب التراث، وبقوا محنَّطين في متاحف التاريخ، وإذا كان أعدادٌ كبيرةٌ من الفقهاء والمفكِّرين قد بقوا في ذاكرة الحوزات العلميَّة، وفي ذاكرة الجامعات، وفي ذاكرة الدارسين والمتابعين فإنَّهم غائبون عن ذاكرة أجيال الأمَّة، وعن وجدانهم، وعن حركتهم، فكم هي الحاجة كبيرةٌ إلى استحضار هؤلاء الكبار من أجل أن يكونوا صنَّاعاً لمسيرة الأمَّة.
عامٌ مضى على رحيل العَلَم الكبير والأب المربِّي، والمجتهد الصَّامد، والعامل الصابر السَّيد محمد حسين فضل الله، ولا زالت اللوعة تملأ كلَّ القلوب التي عشقت هذا الرجل، وأحبَّته، وترسَّمت خطاه، وكيف لا وقد ملأ كلَّ المشاعر، وكلَّ العقول، وكلَّ الواقعِ بما يصعب أن يمارسه إلا الأفذاذ الكبار الاستثنائيُّون وهو واحدٌ من أبرزهم، هذا ما يفسِّر لنا هيام العشَّاق والمحبِّين والعارفين.
وحتَّى الذين ناصبوه العداء، وحاربوه، وشتموه، وقذفوه، وملأوا الدنيا ضجيجاً ضدَّه، قد بهرهم صدى رحيله، وأذهلهم حضوره بعد الرحيل، فما كان للهِ يبقى ذِكراً جميلاً، وثناءً عطراً «وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ» (الشّعراء: 84) قد أخلص - رضوان الله عليه - كلَّ الإخلاص لله تعالى، وذاب فيه، وأعطى حياته له، هكذا عرفتُه عن قُرب، ومن خلال تاريخ طويل، ما كان يسمح لنفسه أن يستريح، ما دامت الرَّاحةُ على حساب العمل والعطاء، والجهاد، كان يقول:
«الراحة عليَّ حرامٌ ما دمتُ قادراً أنْ أعملَ، أنْ أُعطيَ، أن أُجاهدَ». ورغم أنَّ المرض قد حاصره في أيّامه الأخيرة، إلا أنَّه كان يُصرّ أن يُصارع المرضَ ليبقى في خطِّ الجهاد، وفي خطِّ العطاء، وظلَّ ماسكاً القلم ليوصل الكلمة حتى الرَّمق الأخير. أراد للكلمة أن تحمل رسالته، وأن تبقى تتابع العطاء: «أحبَّتي، إخوتي، أبنائي تابعوا المسيرة». وهكذا ودَّع الدنيا وهو يجاهد من أجل الله.
رحمك الله - أبا علي - نم قرير العين، فأحباؤك وإخوتك، وأبناؤك وتلامذتك، سوف يبقون أوفياء لخطِّك ونهجك ومدرستك