عن ضعف الأحزاب وازدهار اللوبيات
يقول الخبير الإيرلندي في شئون الأحزاب السياسية إيفان دوهرتي بأنه "من دون الأحزاب والمؤسسات السياسية القوية والمسئولة والفعالة، أي تلك التي تستطيع المفاوضة على التسويات وتوضيحها، ردا على المطالب النزاعية، سيكون الباب مشرعا فعلا أمام القادة الشعبيين الساعين إلى تجاهل المؤسسات الحكومية، وأنظمة موازين القوى خاصة، بالإضافة إلى حكم القانون".
ويبدو لي أن هذا ما يحصل في البحرين. ضعف الأحزاب السياسية، خصوصا جمعية "الوفاق" ذات الامتداد الشعبي العريض في أوساط المواطنين الشيعة المهمشين، يؤدي إلى تعزيز قوى الناشطين خارجها، وهو ما يتمظهر في ازدهار فعاليات جماعات العاطلين عن العمل، ولجنة الشهداء وضحايا التعذيب، وناشطي حقوق الإنسان، والمدافعين عن البيئة والسواحل، والساخطين على توزيع بيوت الاسكان، والمحتجين على رسم كاريكاتوري.
وفي الغالب تكون مطالب اللوبيات صوابا، لكنها لا تملك، بحكم إطارها القانوني وطبيعة تشكيلتها ونشاطها ودورها، ما يمكنها من بلورة خطابها إلى برنامج فعلي، فهي لا تحكم ولا تشارك في الحكم، ما يجر بعضها إلى استخدام أساليب شتى، من بينها ما قد ينظر إليه على أنه خارج سياق المعطيات السياسية، بل وقد يتم تجاهل القانون والضوابط المتعارف عليها.
وهذا ما فعلته مرات جماعات العاطلين عن العمل، الذين يتظاهرون في أي مكان يرغبون، وفي أي وقت، من دون أخذ بالاعتبار رد فعل الحكومة المتوقع، ومدى تأييد القوى الدينية والسياسية لنشاطهم. فهم معنيون بتحقيق مطالبهم الحقة فقط، أما كيف يتم ذلك، فهذا سؤال تجيب عنه السلطات التي تدير البلد، وتتحكم بالموازنات وترسم الأولويات.
وهكذا، فإنه ربما لا يمكن توجيه اللوم إلى لوبي الدستوريين في معالجته السطحية للحدث السياسي الراهن، فهو تجمع من ناشطين حقوقيين وسياسيين، يطالب بدستور عقدي، يعطي مساحة أوسع للمجلس المنتخب، ولا يهمه كثيرا كيف يتحقق ذلك، فهذا مناط السلطات التي "أدخلت البلد في هذا المأزق"، والأحزاب السياسية التي عليها أن تتخذ القرارات التي تحقق الأهداف المنشودة.
وكذا هو وضع لجنة ضحايا التعذيب التي يهمها بالدرجة الأولى أن يعوض أسر الشهداء والضحايا عن الانتهاكات الواسعة التي تعرضوا لها، وأن يحاكم من تسبب في ذلك، وأية تفاصيل أخرى لا تشغلهم كثيرا. وهذا أمر منطقي إلى حد كبير، بل هو المتوقع من لوبي كهذا يعبر عن ظلامات حقيقية.
وكل ما سبق يجعل من الأهمية بمكان التفكير في وضع رؤى عملية وقابلة للتنفيذ وتقودها الدولة، لأن تأخذ الأحزاب السياسية دورها في الحياة العامة، فهي مؤسسات مناط بها القيام بأدوار غير تلك المسندة إلى اللوبيات ومؤسسات المجتمع المدني. فالأخيرة ترفع شعارا واحدا، تسعى إلى تحقيقه، وليس من المهم بالنسبة إليها الآليات والوسائل، وأثر ما يطالبون به على الأمور الأخرى. أما الأحزاب السياسية، فإنها تضع البرامج العملية لتحقيق جملة المطالب الشعبية، وليس مطلبا واحدا، وتسعى إلى تحقيقها عبر تداول السلطة الذي يأمل الوصول إليه أو المشاركة في اتخاذ القرار من خلال المؤسسات التمثيلية، آخذة بالاعتبار طبيعة الصراعات في البلد، والسياق العام، وموازين القوى، والتحالفات، والموازنة العامة، والأولويات، فضلا عن طبيعة الأوضاع الأقليمية والدولية...
ومن أجل تحقيق أهدافها، فإن الأحزاب تدخل مفاوضات مستمرة، وقد تصل إلى تسويات مرحلية، وقد تؤجل النظر في مسألة ما، وقد تغمض العين عن ما يعتقد أنها قضايا ملحة، وقد تقدم تنازلات، وقد توقع اتفاقا خلاف المتوقع منها ضمن صفقة أكبر... أي أنها بعبارة واحدة تدير الصراع الدائم بين مصالح مختلفة ومتضاربة، كأي صاحب قرار، يدرس كل المعطيات قبل أن يقول نعم أو لا.
بل ونادرا ما يكون الجواب بالايجاب والسلب وانما هو بين بين.
لذا يقول الخبير الإيرلندي إن "المجتمع المدني لم يكن ولن يكون يوما بديلا عن الأحزب السياسية أبدا، بل جزء مكمل للأحزاب"، بيد أن ذلك لا يبدو مستوعبا من أطراف اللعبة السياسية، بما في ذلك الحكومة التي ربما عليها أن تدرك بأن استمرار ضعف المؤسسات الحزبية قد يعني مزيدا من انفلاش الأوضاع، وصعوبة السيطرة عليه، إذ يفتح ذلك الباب على مصراعيه لنمو الجماعات التي تبدو متشددة، والتي استطاعت أن تحرج السلطات، وتفقدها قدرتها على ضبط النفس.
وفي ظني، فإن التأخير المتعمد لقانون الجمعيات السياسية، بهدف ادخاره للعام المقبل كذخيرة للمساومات المتوقعة مع الجمعيات السياسية المقاطعة، ليس سوى دليل آخر على عدم إدراك الحكومة للخطأ الفادح الذي ترتكبه، حين تتمادى في إضعاف الأحزاب السياسية.
وكما وضعت الدولة برنامجا لتمكين المرأة "لم ير النور بعد" فإنها عليها أن تضع برنامجا لتمكين الجميعات السياسية، التي تعاني من الضعف الداخلي، واهتزاز صورتها أمام الرأي العام، لأسباب تعود في جوانب كثيرة منها إلى الجميعات ذاتها