لكي نتفادى تأخر إقرار الموازنة
بات في حكم المؤكد أن تقر المؤسسة التشريعية خلال الأيام القليلة المقبلة الموازنة العامة للدولة للعام الجاري "2005" والمقبل "2006"، متأخرة نحو سبعة أشهر عن بدء السنة المالية، ما يستدعي درس ما يجب فعله لتفادي تكرار مثل هذا التأخر، الذي ينعكس سلبا على بعض القطاعات، ومن بينها المشروعات الخدمية، فضلا عن أنه يعكس حالا من غياب المهنية والاحترافية حين يكون عرفا سائدا التأخر في إنجاز مشروع ما، بحجم الموازنة يعد أهم مشروع للدولة، إذ هو يمثل برنامج الحكومة الفعلي للسنتين المقبلتين: ما أولويات الصرف؟ وفي أي المواقع؟ وكيف ستتعاطي مع مشكلة السكن، والازدحام المروري، والنقص في الكهرباء والماء؟ وماذا ستقدم للعاطلين والأرامل ومؤسسات المجتمع المدني؟. .. الموازنة تضم كل هذه الرؤى، بعيدا عن التنظير الفارغ والتوجيهات التي لا تمل الحكومة تكرارها من دون أن تجد لها صدى على الأرض.
ولعل المطلوب مراجعة جملة أمور، تتعلق بالصياغات الدستورية واللائحة الداخلية، وقد يمكن تفادي ذلك بالتوافق على خلق أعراف تفرض ضوابط على الحكومة والمجلسين في إنهاء النقاشات قبل بداية السنة المالية المستهدفة.
واحد من الخيارات الذي قد يستدعي المراجعة عدد من المواد الدستورية التي تنظم تسيير الشئون المالية، ومن بينها البند "ب" من المادة "109" التي تدعو الحكومة إلى تقديم مشروع الموازنة إلى مجلس النواب قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل، أي في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. والمراجعة ضرورية هنا لأنه اتضح - بما لا يدع مجالا للشك - أن مدة شهرين ليست كافية لدرس الموازنة وإقرارها، إذا أخذنا في الاعتبار تحفظ الحكومة وامتناعها أحيانا عن توفير المعلومات المطلوبة.
صحيح أن الدستور يقول "شهرين على الأقل"، ما يعني أن الحكومة يمكن أن تقدم الموازنة قبل أكتوبر، لكن ما يحدث أنها تقدمها متأخرة، كما فعلت في مشروع الموازنة الحالية الذي قدمته في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني .2004 وفي الصورة المثالية قد يكون مناسبا إلزام الحكومة دستوريا بتقديم مشروع الموازنة قبل 10 أشهر على الأقل، كي تنجز قبل نهاية السنة المالية... وإذا ارتئي أن النص الدستوري لا مشكلة فيه، مادام يعطي الحكومة فرصة لتقديم الموازنة قبل أكتوبر، فيمكن ضبط المعادلة من خلال تغيير مواد اللائحة، بتضمينها مادة تلزم الحكومة بتقديم الموازنة في شهر فبراير/ شباط، وليس في أكتوبر كما هو النص الحالي. ومثل هذا الإجراء ممكن، ولا يتعارض مع الدستور، إذ سبق أن نظمت اللائحة الداخلية عدد الأسئلة التي يحق للنائب توجيهها إلى الوزراء، وهو حق جعله الدستور مفتوحا، فيما حددته اللائحة الداخلية في سؤال واحد في الشهر لكل نائب. كما يمكن إلزام الحكومة بتقديم الموازنة في فبراير من خلال تضمين هكذا نص في قانون الموازنة.
ولا أعرف إلى أي مدى يمكن إلزام الحكومة، أخلاقيا، بأن تقدم الموازنة في فبراير من دون حاجة إلى النص على ذلك في الدستور أو اللائحة الداخلية أو قانون الموازنة، فإذا كانت لا تحترم المواعيد التي يحددها الدستور، فكيف لها أن تحترم أعرافا، يحتاج تكريسها إلى أفق غير الأفق الذي تدير به الحكومة شئون البلد.
إلى ذلك، اتضح من النقاشات التي سادت الجلسة العامة أمس، أن النواب لم يضيفوا، في الغالب الأعم، شيئا إلى ما سبق أن تحدثت عنه اللجنة المالية ما حولها الى جلسة إجرائية، ما يعكس - من ناحية - أن اللجان يمكن أن تتحول فعلا إلى مطبخ للقرار، كما اجتهدت في فعل ذلك اللجنة المالية، لكن ذلك يعكس - من ناحية أخرى - ضعف إلمام الأعضاء بالشئون المالية، وعدم اعترافهم بحاجتهم إلى استشارات في ذلك، وهم بالمناسبة تسلموا جدول الأعمال يوم الأربعاء الماضي، وبدأوا النقاشات يوم أمس السبت من دون تحضير، كما أقر أحد الأعضاء.
وفي ذلك، سيظل يلح على اللجنة المالية وغيرها من اللجان سؤال بشأن افتقارها إلى خبراء. فمن غير المعقول ألا يشتغل في مجلس النواب سوى اثنين من المستشارين القانويين، فيما تظل اللجنة المالية من دون خبراء في شئون المال والاقتصاد، ولجنة الخدمات من دون خبراء في شئون التعليم والصحة، ولجنة المرافق العامة من دون خبراء في شئون الإسكان والطرق... وكذا الحال مع بقية اللجان.
وإذ ركزت لجنة الشئون المالية جهدها في الشهور الستة الأخيرة على الموازنة، فإنها لم تستطع الوفاء بالتزاماتها الأخرى، وبين يدي قائمة طويلة من المشروعات والاقتراحات بقوانين لم تنجزها اللجنة... ولعل وجود خبراء ومساعدين فنيين وإداريين سيكون مسهلا في إنجاز المهمات بصورة أفضل.
حدث تقدم على صعيد درس الموازنة الحالية مقارنة بالموازنة الماضية، لكن يظل الفارق كبيرا مع ما يجب الوصول إليه من احترافية ومهنية، فمازال النظر إلى الموازنة لا يرقى إلى اعتبارها مشروعا تنفيذيا للدولة، يستدعي درسه إشراك الأطراف كافة: كل لجان المجلس، وليس اللجنة المالية فقط، لتقدم كل لجنة تقريرها فيما يخص المشروعات ذات الصلة بعملها، وكذا إشراك مؤسسات المجتمع المدني، والخبراء وليس اقتصار النقاشات بين اللجنة المالية والحكومة... والأمل كبير أن يكون تشكيل لجنة خاصة بالموازنة مساهما في التعاطي مع مشروع الموازنة في بعده الاستثنائي، كمشروع ليس كأي مشروع