لابد من حلحلة الأزمة الدستورية لأنها عصب الإصلاح والتغيير
كيف ننشط الإدارة الفاعلة في داخلنا؟
يجب أن نبدأ من الداخل، إن تنشيط الإرادة في داخلنا هو المنطلق، إن المثيرات الخارجية دورها مؤقت إذا لم تتشكل الحوافز الداخلية، من خلال هذه الحوافر الداخلية تقوى الإرادة، تتحرك الإرادة، تكون إرادة فاعلة، وأما إذا غابت الحوافز الداخلية فإن الإرادة تضعف، تتبلّد، تكون إرادة راكدة.
ما الوسائل لتنشيط الإرادة؟
أتناول بعض الوسائل:
الوسيلة الأولى: أن تخلّص الإرادة من كل الضغوط التي تأسرها (التحرر من المؤثرات الضاغطة): هناك أمور تضغط على الإرادة، تأسرها، تشل حركتها، من هذه الأمور ما تناولته بعض الأحاديث والروايات، روي عن رسول الله (ص) أنه قال: «من أكل الحرام اسودّ قلبه، وضعفت نفسه، وقلت عبادته، ولم تستجب دعوته».
وهذا الحديث يشير إلى مجموعة آثار خطيرة جداً لأكل الحرام: اسوداد القلب وتلوثه وهذا يؤدي إلى الإصابة بـ «الشلل الروحي»، وكم للشلل الروحي من نتائج مدمرة... ضعف الإرادة الإيمانية، وهذا يؤدي إلى تعطيل القدرات والطاقات والمواقف، الكسل العبادي، وهذا يؤدي إلى الفتور والاسترخاء في ممارسة العبادة والطاعة، وعدم استجابة الدعاء وعدم قبول الأعمال.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع)، فقال: إني حرمت قيام الليل، فأجابه أمير المؤمنين (ع): «أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك». فالذنوب من أكبر الضغوط على الإرادة... وكيف تضغط الذنوب على الإرادة؟
الذنوب تسبب «قسوة القلب»، وهذه القسوة تسبب «الفتور الروحي» وهو بدوره يؤدي إلى الشلل والجمود... جاء في الحديث: «ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»، وقال تعالى: «كلا، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» (المطففين: ).
جاء في بعض الروايات: إن في القلب نكتة بيضاء، فإذا أذنب الإنسان ظهرت نكتة سوداء في تلك النكتة البيضاء، فإذا تاب الإنسان انمحت تلك النكتة السوداء وبقي القلب في صفائه ونقائه وبياضه، وإذا تمادى في المعصية اتسعت النكتة السوداء، ثم تأخذ في الاتساع إلى أن تغطي القلب، فيصبح القلب مظلماً قاسياً جامداً، وهذا هو «الرين» وإذا أصيب القلب بالرين والجمود والقسوة لم يعد يبصر الهدى، ومات في داخله نبض الخير والصلاح والتقوى.
وعن أمير المؤمنين (ع)، قال: «إياكم والبطنة فإنها مقساة للقلب، مكسلة عن الصلاة». وجاء في وصايا لقمان: «إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة وخرست الحكمة وتراخت الأعضاء عن العبادة». وجاء عن الإمام الصادق (ع)، قال: «إن كثرة الأكل وكثرة النوم يثقلان النفس عن الطاعة، ويقسيان القلب عن الذكر».
الوسيلة الثانية: تقوية الحوافز الإيمانية داخل النفس: إن فاعلية الإرادة وركودها مرتبطان بقوة الحوافز الإيمانية وضعفها... ماذا نعني بالحوافز الإيمانية؟
أهم الحوافز الإيمانية: الخوف من الله تعالى، الشوق إلى ثواب الله تعالى، الحياء من الله، الحب لله تعالى... وقد أكّدت هذه الحوافز الإيمانية آيات كثيرة وروايات متضافرة: «والذين آمنوا أشدّ حبّاً لله» (البقرة: )، «يحبّهم ويحبونه...» (المائدة: )، «تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً...» (السجدة: )، «أمّن هو قانت آناء الله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه» (الزمر: ).
عن الإمام الصادق (ع)، قال: «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاءً كأنه من أهل الجنة». وفي الحديث: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو». وعن الإمام علي (ع)، قال: «الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا». وعن الإمام الكاظم (ع)، قال: «استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الله في علانيتكم».
وعن رسول الله (ص) قال: «ليستحِ أحدكم من ملكيه اللذين معه كما يستحي من رجلين صالحين من جيرانه، وهما معه بالليل والنهار».
وروي أن نبي الله عيسى (ع) مرّ بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار... فقال (ع): حق على الله أن يؤمن الخائف... ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الشوق إلى الجنة. فقال (ع): حق على الله أن يعطيكم ما ترجون... ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً، كأن على وجوهم المرايا من النور، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: حب الله - عز وجل - ... فقال (ع): أنتم المقربون...
وفي الخبر: «إن إبراهيم (ع) قال لملك الموت، إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟... فأوحى الله - تعالى - إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت، الآن فاقبض».
وقال أمير المؤمنين (ع) حينما ضربه ابن ملجم بالسيف في محراب الصلاة: «فزت ورب الكعبة». وأي فوز أكبر من أن يلتقي علي (ع) بالمعشوق الأكبر، بالمحبوب الأكبر، بالله سبحانه وتعالى.
وعلي (ع) هو القائل في دعاء كميل: «فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك...».
الشهيد الصدر وتطوير الحوزة
كانت اهتمامات الشهيد السيد محمد باقر الصدر تتسع لكل المساحات والمفاصل في حياة الأمة، فلم يكن المشروع التغييري الذي طرحه الشهيد الصدر مشروعاً يستهدف تغييراً جزئياً في واقع المسلمين، وإنما هو مشروع شمولي يهدف إلى إعادة صوغ الواقع بكل امتداداته ومكوناته... وقد بدا هذا واضحاً من خلال الطروحات والأبحاث والدراسات التي قدّمها الشهيد الصدر، والمهم أن نفهم أن مشروع الشهيد السيدالصدر مشروع شامل حاول أن يستوعب كل الأبعاد والمجالات والامتدادات انطلاقاً من وعي بضرورة أن يتحرك الإسلام في كل المساحات الفكرية والثقافية والروحية والأخلاقية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وهذا يفرض بكل تأكيد أن يحدث تغيير جذري في أساليب العمل على كل المستويات، وما لم يحدث هذا التغيير فلن يتمكن المشروع الإسلامي الشامل أن يتحرك، وستحاصر كل الأوضاع الجديدة في مجتمعات الإنسان.
من الاهتمامات الكبيرة جداً التي عاشت في وعي الشهيد الصدر وفي وجدانه، مسألة العمل من أجل تطوير الحوزة العلمية... ما رؤية الشهيد الصدر تجاه الحوزة؟
إنه يعتبر الحوزة العلمية قلب الإسلام ومركز ثقله في عصر الغيبة الكبرى، وهي ثانياً صرح كبير امتد عمره أكثر من ألف عام، وقد شاده وحافظ عليه علماء طيلة هذا التاريخ الطويل، ثم انها موقع القيادة الإسلامية ممثلة في المرجعية الدينية التي هي امتداد للإمامة.
وانطلاقاً من هذه الرؤية لموقع الحوزة العلمية كان الشهيد السيدالصدر يحمل هم تطوير هذا الموقع ليكون في مستوى مسئولياته الكبيرة جداً، وليكون قادراً على أداء مهماته الخطيرة بما يتناسب مع كل المتغيرات والمستجدات والتطورات والتحديات والاشكالات.
وفي هذا الاتجاه كانت للشهيد الصدر مجموعة ممارسات:
- خلق وعي تغييري في الذهنية الحوزوية: كانت له محاضرات وتوجيهات لعلماء وطلاب الحوزة العلمية تركز على ضرورة التفكير في أساليب العمل، وضرورة التفكير في تطوير الأساليب، وألا تجمُد الحوزة على الأساليب الموروثة عن الآباء والأجداد.
هذه بعض كلماته بشأن هذه النقطة: «لابد لنا أن نتحرر من النزعة الاستصحابية، من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل، هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، ولأضرب أبسط الأمثلة: حتى أن كتاباً دراسياً مثلاً إذا أريد تغييره إلى كتاب دراسي آخر أفضل منه، حينئذ تقف هذه النزعة الاستصحابية في مقابل ذلك، إذا أريد تغيير كتاب بكتاب آخر في مجال التدريس - وهذا أضأل مظاهر التغيير - إذا أريد ذلك حينئذ يقال: لا، ليس الأمر هكذا، لابد من الوقوف، لابد من الثبات والاستمرار على الكتاب نفسه الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه، أو المحقق القمي رضوان الله عليه، على هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لأننا نعيش بأساليب منسجمة مع أمة، تلك الأمة لم يبق منها أحد، تلك انتهت وحدثت أمة أخرى ذات أفكار أخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى... فحينئذ من الطبيعي ألا نوفق في العمل، لأننا نتعامل مع أمة ماتت، والأمة الحية لا نتعامل معها، فمهما يكن من تأثيرنا فسيكون تأثيراً سلبياً، لأن موضوع العمل غير موجود في الخارج، موضوع العمل ميت، وما هو الموجود في الخارج لا نتعامل معه...».
«فلابد أن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نطرح على أنفسنا... أن نطرح على أساتذتنا... أن نطرح على زملائنا... أن نطرح في كل مكان هذه الأسئلة: ما العمل؟ كيف العمل؟ ما أساليب العمل؟ كيف يمكن تجديد أساليب العمل بالشكل الذي ينسجم مع الأمة اليوم؟
هذه أسئلة قد يكون جوابها صعباً في بداية الأمر، لأنه ليست هناك مطالعات، ليس هناك ترويض فكري على الجواب عنها، قد تجد أن الجواب عن مسألة أصولية سهل، لأن هذا الإنسان الذي تسأله قد درس الأصول عشرين سنة، وإذ إن هذه الأسئلة بنفسها أيضاً أسئلة دقيقة ومرتبطة بمدى خبرة الإنسان وتجاربه واطلاعه على ظروف العالم... لهذا قد يجد الصعوبة في الجواب عن هذه الأسئلة، ولكن هذه الصعوبة لابد من تذليلها بالبحث والتفكير ومواصلة البحث والتفكير...».
في المقطع الذي نقلناه، يتحدث الشهيد الصدر عن أساليب وضرورة تطوير وتجديد هذه الأساليب، وأما النظرية الإسلامية نفسها فهي ثابتة لا تتغير، وجاء في كلمات الشهيد الصدر هذه الفقرات:
- «نحن عندنا (نظرية) وعندنا (عمل). النظرية هي الإسلام، ولاشك ولاريب أن ديننا ثابت لا يتغير، ولا يتجدد، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يفترض كون هذا الدين بحاجة إلى تغيير أو تحوير أو تطوير...».
- «من الخطأ ألف مرة أن نقول: ان الإسلام يتكيف وفق الزمان، الإسلام فوق الزمان والمكان لأ