على خلفية خطاب الملك
الخطاب الذي أجاب على أسئلة الشارع البحريني
عندما غضب الرئيس جمال عبدالناصر من موسكو مرة - على رغم العلاقة الحميمة التي كانت تربط بينهما - ذهب إلى عرينه وعرين كل القيادات المصرية فوقف من على منبر الجامع الأزهر وألقى كلمة يلوم فيها السوفيات على بعض مواقفهم التي أغضبت الشعب المصري.
ومثلما توجه عبدالناصر إلى عرين القادة المصريين توجه جلالة الملك إلى عرينه في قوة دفاع البحرين ليلقي كلمته من خلف منبرها، وعلى رغم العلاقة التي تربط جلالته بكل الشعب البحريني وقياداته الدينية والسياسية بجميع أطيافها، فإنه ذهب ليلقي بعض اللوم على أولئك الذين يغذون التطرف بخطبهم التحريضية ربما بشيء من العفوية، ما جعل الكثير من المواطنين والمقيمين وزوار هذا البلد يستنكرون ما جرى. ثم لأن تلك القيادات لم تنظر بعمق لما يجري في الساحة الدولية والإقليمية، ما لا يسمح بالتحرك نحو العمل الإصلاحي وولوج باب الانفتاح والديمقراطية إلا بخطى حذرة وبحسابات دقيقة.
أشار البعض إلى تساهل أجهزة الأمن، ما حدا بجلالة الملك لإلقاء تلك الخطبة التي كشف فيها حدود الاحتمال، معيدا إلى ذاكرتنا نحن الكهول تلك الأغنية «الكلثومية» الرائعة إنما «للصبر حدود»، وفي ظني أن الكلام لم يكن موجها إلى القيادات الدينية والسياسية والشعب البحريني فحسب، بل ربما إلى أولئك الذين تساهلوا كذلك ربما لعذرهم بأنه لا يحق لهم التدخل ما دامت حال الطوارئ مرفوعة فساق هذا الخطاب إلى هؤلاء وهؤلاء معا، إلى أن من نسي أن هناك قانونا يرفض الفوضى ويعاقب من يريد أن يجعل من البلاد ساحة صراع ويأخذ راحته ليفعل كيف يشاء، وإلى أجهزة الأمن ليوضح لهم أن محاصرة الفوضى ومعاقبة المسيء واعتقال المخرب لا تحتاج إلى قانون طوارئ، فمتى كان المعتدي على حقوق الآخرين بحاجة إلى التساهل والتراخي و«بلاش كده يا حبيبي وخليك حنيّن شويّه» فإن المتهاون في احترام القانون مواطن غير صالح وبالتالي يجب إعادته إلى رشده وتذكير البعض بأن ما يجري لا يأتي من ضعف، بل عن قناعة بأن الديمقراطية تفرض بعض التساهل واحترام المواطن وتقبل الاحتجاجات، ولكن ليس كل التساهل وترك الحبل على الغارب من دون حدود.
من هنا ألقى جلالة الملك خطابا حسم الكثير من القضايا محل الجدل في المجتمع البحريني، وكان الخطاب متوقعا لينهي الخوف الذي كان يعيشه العقلاء والناضجون من طبقة المثقفين الغيورين على مصلحة الوطن والذين هالتهم التجاوزات، التي نتجت عن تقدير خاطئ لبعض السياسيين من أن التراخي ليس دائما دليل الضعف بقدر ما هو سعة صدر للقيادات الإصلاحية.
كان هذا الخطاب مترقبا لإنهاء البلبلة وفترة الرعب التي عاشها المواطنون والمقيمون والمستثمرون الحاليون، والراغبون في الاستثمار من الخارج وخصوصا بعد أن أصبحت مسألة «التخلخل الأمني» حديث المجالس، فلولا الحسم بخطاب جلالته هذا فإن الوساوس بدأت تقلق المواطن وتجعله يسأل: إلى متى يبقى هذا الانفلات الأمني؟ وإلى أي مدى يتم تحمل ما يجر البلاد إلى ساحة صراع مرعب؟ لأن استمرار هذا الوضع لم يكن من مصلحة هذا الوطن الباحث عن رؤوس أموال ومستثمرين، أو مصلحة المواطن الباحث عن مواقع للعمل فيها ومن التسابق بين دفع المؤسسات التعليمية بمزيد من الخريجين وبين جهود وزارة العمل لردم الهوة الواسعة بين إمكاناتها لتوظيفهم وبين ذلك الكم من مخرجات التعليم.
كان لابد لهذا الخطاب أن يأتي لنعرف ما يجول في عقل جلالة الملك. هل سيعيد البلاد تحت هذه الضغوط إلى زمن قانون أمن الدولة مع إدراكه العميق بالآية الكريمة «ولا تزر وازرة وزر آخرى» فبقدر ما في الساحة البحرينية من عناصر سياسية لا تقرأ مجريات الأمور بأعصاب هادئة، ومن خلال قراءة صحيحة ومتمعنة للأوضاع المحلية والإقليمية والدولية هناك عناصر ناضجة لا يمكن لأحد من أولئك المزايدة على وطنيتها، وصارت تبدي استياءها من هذا الأسلوب وهذه اللهجة، وهذه الممارسات وهذا النفخ في اتجاه التصعيد لا من منطلق تراجعها الفكري والعقائدي والوطني بل لإدراكها أن الوقت غير مناسب لعملية التسخين وتشويش الشارع البحريني ليصل مستوى أن يقوم بعض البسطاء باعتداءات فردية وأعمال تخريب يعرف العقلاء أنها لن توصل إلى تحقيق المطالب الوطنية المشروعة بقدر ما تسبب تراجعا حتى في المكتسبات الحالية، ورغبة القيادة الإصلاحية برئاسة جلالة الملك في مواصلة طريق الإصلاح ما يدفعه إلى التوقف والتأمل ليعيد إلى ذهنه مراهنات بعض الغربان الذين ليس من مصلحتهم أن ينعتق هذا البلد من قبضتهم، ويراهنون أن جلالته سيضطر إلى العودة إلى «أيام حليمة» السابقة، وهل نصائح تلك الغربان فيها شيء من الحقيقية؟ ولهذا فإنه في نظري أن خطاب جلالته خلال زيارته للقيادة العامة لقوة دفاع البحرين يجب أن يسمى «بخطاب الحسم الذي قطع قول كل خطيب، وكل عرّاب خائب».
لقد استهل جلالته خطابه كما عودنا بالأسلوب الأبوي اللطيف الذي يتم الحديث به مع الأبناء حتى في حالات الغضب، ما يلفت النظر إلى أن جلالته ألقى كلمته وسط «عرينه» الذي ترعرع فيه ونمى مع أفراده وشاركهم في بناء هذا الصرح ولهذا فهو يدرك جيدا أنه يقف اليوم تحت السد الذي بناه ليكون سياجا للحفاظ على الأمن من دون الالتفات إلى جهات أخرى، ولهذا قال بكل اعتزازٍ وتحدٍ: «يطيب لنا عبر هذا المنبر الوطني القائم على صادق الولاء أن نتوجه إليكم وإلى كل مواطن ومواطنة بحديث من القلب والعقل لنكون على بينة بما يدور حولنا».
إن إضافة كلمة من «العقل» إلى كلمة «القلب» التقليدية جعلت الخطاب يخرج من إطاره التقليدي وكأنه يود أن يعلن جلالته أن الوضع لا يحتمل العواطف بل لابد من الحديث العقلاني الخالي من المجاملات، ثم أجاب على السؤال الذي كان سيطرحه المواطن: لماذا؟
فتجاوز السؤال بطرح الجواب مباشرة «بسبب التداعيات التي تتطلب أقصى درجات التحسب والإدراك، فالأمة العربية تمر اليوم بظروف وتطورات خطيرة وصعبة تدعو إلى العمل الجاد المصحوب بالوعي الناضج لبناء مستقبل هذه الأمة التي يراد لها أن تبقى في دائرة الصراع والعنف المدمر، لكنا على ثقة في قدرات الأمة على النهوض من جديد مرفوعة الرأس بعزة وكرامة».
لقد بدأ جلالته بالكشف عن الأسباب التي جعلته يتحرك بحذر فقال: «ان المممارسات الاسرائيلية وسياسة الاغتيالات التي تتبعها للنيل من الرموز الفلسطينية لن تثني هذه الأمة عن المطالبة بحقوقها والإصرار على نيلها كاملة، إلا أن هذه الأوضاع تدعونا نحن في البحرين وفي كل قطر عربي إلى أن نلتف الى مسيرة العمل الوطني ونعزز جبهتنا الداخلية حتى نكسب معركة التحديث والتطور في عصرنا».
ثم تحدث جلالته عن هدفه الذي وضعه نصب عينيه في عملية التحديث قائلا: «لا تراجع عنه ولن يسمح لأي كان بالعبث به أو عرقلته، فمستقبل شعب البحرين وحقه في الحياة الكريمة هدف مقدس غير قابل للانتقاص، وكلنا مجندون لتحقيقه وحمايته بكل ما نملك». ورأى ضرورة العمل في الضوء ومن خلال الشفافية الحقيقية إذ قال: «وعلى الصعيد الوطني إذ لا يجوز خلط الأوراق صونا للمستقبل فقد حان وقت المضي في عملية البناء والتنمية صفا واحدا بكل الطاقات وبلا هدر أو مشاغلات جانبية وذلك تلبية لاحتياجات المواطن البحريني في العمل والسكن والتعليم ورفع مستوى المعيشة لكل بحريني وبحرينية وتشجيع المستثمرين من الداخل والخارج على المشاركة في دفع عجلة الاقتصاد للأمة».
وها هو يكرر ما يخفى على الكثيرين أو يحاولون تجاهله، ها هو يتحدث أن المسيرة الديمقراطية في بدايتها وأنه عازم على استكمالها: «وإذ استطعنا بفضل الله ثم بتعاون شعبنا الوفي وقواه السياسية الواعية أن نؤسس لمناخ الحرية ونستأنف المسيرة الديمقراطية في إطار ما أنشأناه من مؤسسات دستورية أخذت تؤدي عملها بانتظام ونجاح ونحو المزيد من التطور فإنها الآن ساعة العمل من أجل الإصلاح والبناء الاقتصادي وتشجيع الاستثمار من دون توقف في ظل نظامنا المتجدد للمزيد من إشراك المواطن البحريني في ثمار التنمية وتفعيل اقتصادنا الوطني»، لكن جلالته بدأ بعد ذلك بالدخول في كلام الجد، وجد الجد حين قال: «من يعرقل وصولنا لهذا الهدف لا يعكس الأخلاق البحرينية ولابد أن يتحمل كل منا مسئولية عمله ولا يستغرب الردع القانوني اللازم ولا يمكن للدولة أن تترك مصالح المواطنين وآمالهم تحت رحمة أي تجاوز للقانون».
بعد ذلك ذكر الشعب بأن الديمقراطية لا تنمو في مناخ الفوضى وانعدام الأمن بل تحتاج إلى سياج من القوة كي يحافظ عليها ويحميها، فمثل هذه المكتسبات تحتاج إلى الاستمرار، وانه سيدعم قوة دفاع البحرين لتكون قادرة على حماية هذه المكاسب إذ يقول: «إن الأمن في المجتمعات الديمقراطية خصوصا هو الضمان الأول لسير الحياة وللعمل والاستثمار والإنتاج كما أنه عماد الحريات الدينية والمدنية إذا انتفى الأمن انتفى الإنتاج والحرية بل توقفت الحياة الطبيعية وذلك إرهاب ضد المجتمع والحياة واعتداء على حقوق الإنسان... حقوقه في الحياة الحرة الآمنة والعمل المطمئن المنتج ولا مناص من وقف هذا الإرهاب بقوة القانون في المجتمع الديمقراطي وليس مستغربا أن المجتمعات الديمقراطية المتقدمة هي الأكثر حرصا على كفاءة وجاهزية قوى الأمن ودعمها بأحدث الإمكانات حماية لأمن شعوبها في الحياة والعمل والحرية ضمن حدود القانون»، ليس كل الخطاب موجها إلى ما حدث من تجاوزات من قبل بعض الشباب، بل موجه كذلك إلى أولئك الذين تسول لهم أنفسهم السرقات الخطيرة وبالأساليب الخارجة عن حدود هذه الدولة. ويضيف: «ومن هذا المنطلق فإنا نؤكد الدعم والمساندة لقوى الأمن في البلاد لأداء مهماتها القانونية كاملة وحماية كل مواطن ومقيم بلا تردد إذا تعرض القانون والنظام لأي تجاوز أو خطر».
ثم يكشف للجميع حدود استخدام القوة والحفاظ على المكاسب الوطنية فيقول: «وإذا كانت قوى الأمن مخولة بحماية حريات المواطنين في التعبير السلمي عن الرأي والموقف وذلك ما قامت وستقوم به فإنها مخولة بالمثل بوقف أي تجاوز غير سلمي تحت أي ظرف. واللجوء إلى التخريب والشغب والعنف مرحلة تجاوزناها بالانفتاح والحوار المتصل مع جميع أطراف الأسرة البحرينية ولن نسمح بالعودة إليها، ومثل هذه التصرفات المسيئة لا تضر بتنمية البلاد وسمعتها فحسب وإنما هي موجهة أيضا ضد جميع القوى الوطنية المناضلة في سبيل التطور الديمقراطي السلمي التي نعتز بتعبيرها المتحضر عن رأيها ولابد لنا من موقع المسئولية التعرف على رأيها».
ثم أنهى الحديث بوضيح أن خطابه جاء من منطلق المسئولية والحرص على إنهاء البلبلة في الشارع البحريني فقال: «ولابد لنا من موقع المسئولية أن ننصح الجميع بتدارك الأمر لأننا في سفينة واحدة وأية ثغرة لا سمح الله لن ينجو منها أحد فلابد إذا من تحديد المواقف بوضوح وأمانة».
ثم توجه جلالته بخطابه إلى القوى الوطنية الناضجة التي تعمل وتقدر خطورة الوضع ودعاها إلى أن ترفع صوتها وتبين الحقيقة لأولئك الذين مازالوا يعيشون حال شك دائم، واستعجال غير مبرر له فيقول: «ولابد أن ترتفع كل الأصوات الخيرة التي نثق بقوتها في ضمير البحرين لتقول كلمتها وتحدّد موقفها وتعلن انطلاقها نحو الهدف فلنحافظ على نعمة الأمن في بلد الأمان».
ولكي يؤكد جلالته أنه جاد في كل ما طرحه يقول: «هذا عهد والتزام نأخذه على أنفسنا لشعبنا الوفي وجميع المقيمين بيننا ولن يكون تهاون في ذلك حيال أي تجاوز. كما نريده أمانا شاملا لشبابنا كافة ولأسرهم جميعا مثلما شملناهم به منذ فجر الانطلاقة وفي أوقات أصعب فليكونوا عند حسن الظن ولنحافظ معا على هذا الإنجاز وهذه النعمة».
ألم أقل إن الخطاب جاء ليحسم كل البلبلة والتخرصات وليجيب على كل الأسئلة المطروحة في الشارع البحريني، وينهي مرحلة العرابين والمشككين؟