العودة لدولة الرفاه أو مواجهة ثورة جياع
التطورات الحالية في العالم أفشلت عولمة الليبرالية الاقتصادية الجديدة وهي في بداية الطريق. لقد كان توجه الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر هو الرجوع للنظام الرأسمالي في صورته القديمة التي تدعو إلى الإقصاء التام للدولة باعتبار أن تدخلها شرٌّ مطلق، وإقصاؤها خير مطلق، ولابد من ترك السوق تتحرك بتلقائية بواسطة الأفراد فقط، وهذا المبدأ أهم ما يميز الليبرالية الجديدة.
كان ذلك في بداية الثمانينيات وقبل سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وانهيار التجربة الشيوعية الاشتراكية في منتصف الطريق، أي قبل الولوج إلى مرحلة الشيوعية المبشر بها. هذا الانهيار حُسب من دون وجه حق على أنه انتصار للرأسمالية، فرفعت أنفها عاليا وسط تعالي أصوات المبشرين برجوعها بصورتها القديمة التي حاول ريغان وثاتشر ترويجها والمعروفة حاليا باسم الليبرالية الاقتصادية الجديدة. وفيما بعد ظهرت شعارات تدعو إلى العولمة الاقتصادية، وهي تعني بالضبط عولمة هذه الليبرالية، أي جعل النظام الرأسمالي بصورته القديمة النظام المعتمد في كل دول العالم، وتحويل العالم كله لسوق واحدة.
كان أشد المتحمسين لهذه الفكرة الشركات المتعددة الجنسيات ذات المنشأ الغربي التي تسيطر على جزء عظيم من الدخل العالمي، غير أن هذه الشركات اصطدمت بموقف سلبي من الشعوب الغربية نفسها، فقد كانت هذه الشركات تأمل بفتح أسواق كل الدول أمامها، وكان طموح بعضها أن تفتح الدول الغربية أسواقها للعمالة الأجنبية من أجل استجلابها بأجور زهيدة. غير أن ذلك كما يبدو وُوجه برفض تحت ذرائع مختلفة، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، فتم فرض قيود مشددة على دخول الأجانب وخاصة من الدول الإسلامية تحت دعوى محاربة الإرهاب، وفي مثل هذا الإجراء حماية لفرص العمل ذات الأجور الكريمة للمواطن الغربي.
تحويل العالم كله إلى سوق واحدة كما كانت تأمل الشركات المتعددة الجنسيات يتطلب انسياب السلع بين الدول من دون معوقات وحواجز، وقوة العمل تعتبر في النظام الرأسمالي سلعة مثلها مثل السلع المادية، يحكمها قانون العرض والطلب، فترتفع الأجور إذا قلَّ عرض قوى العمل في السوق والعكس صحيح. غير أن العالم الرأسمالي الغربي اكتفى بالترويج لرفع المعوقات عن انسياب السلع المادية برفع الحواجز الجمركية، وتم الترويج في الدول النامية إلى فتح أبوابها للاستثمارات الأجنبية لتحقيق التنمية، كأن تقوم الشركات المتعددة الجنسية بنقل رؤوس أموالها إلى هذه الدول ومن ثم الاستفادة من انخفاض أجور العمالة فيها بدلا من استقرار رؤوس أموالها في بلاد المنشأ الغربية واستجلاب عمالة رخيصة تنافس الشعوب الغربية على لقمة عيشها.
الأحداث الجارية من ارتفاع أسعار النفط وارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها، ستخمد فزعة العولمة التي تدفع لإقصاء دور الدولة وتسكت الأصوات التي تنوح بسبب تغوُّل الدولة في الشأن الاقتصادي وخاصة مع حصول تفاوت شديد الفحش لدرجة أن بلدا كالهند ينمو سنويا بمقدار 10 في المئة، بينما يموت بعض الهنود جوعا (سعيد الشهابي، صحيفة «الاستقلال»، 18 - 6 - 2008، بتصرف).
الآن، على المستوى المحلي والإقليمي، اضطرت الدولة للتدخل كما في المملكة العربية السعودية التي منعت من تصدير بعض مواد البناء من الإنتاج السعودي كالأسمنت، وقامت دول أخرى بمنع تصدير المواد الغذائية من أجل تمكين شعوبها من الحصول عليها، ومؤخرا صرح بعض مسئولي الحكومة لدينا بتوجهها نحو إنشاء شركة نظافة، واتضح ضرورة تدخل الدولة بعد أن نفدت العديد من المواد الإنشائية من السوق كالأسمنت والرمل.
ويرى البعض أن الأزمة المالية والمطالبة بمزيد من الضوابط على الأسواق المالية ستقود إلى إنهاء فكرة العولمة واختفاء دعوات التجارة الحرة (مارتن ووكر، صحيفة «الوسط»، 2 يوليو/ تموز 2008 - بتصرف)، فلاشك أن وضع ضوابط تعني مزيدا من تدخل الدولة بعد أن عجزت الأسواق عن التصليح التلقائي لأخطائها.
إذا، العالم على أبواب ثورة ضد فكرة إقصاء الدولة التام، وهذا يعني انتهاء حلم عولمة النظام الرأسمالي وخاصة مع ازدواجية الغرب في عولمة هذا النظام القادم تحت مسمى الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وذلك حين يطالب الغرب برفع الحواجز الجمركية على المنتجات والسلع المادية ويرفض رفع الحواجز على انسياب قوى العمل في التنقل إلى حدود دوله. وبذلك نكون على أبواب تبخر حلم الشركات المتعددة الجنسيات التي كانت تأمل بإنهاء شيء اسمه «دولة» لتكون هي المسيطرة على أزمَّة الأمور كما بشر بعضهم بذلك.
الاقتراب من العدالة أو...
والمسألة لا علاقة لها بوجود رغبة بتدخل الدولة، غير أن الأزمات المتوالية والتي بدأت تضرب البشرية حاليا وخاصة تأزم الأوضاع المعيشية المتصاعد، ستدفع البشرية لحالين لا ثالث لهما، أما الاقتراب نحو الحد الأدنى من تحقيق العدالة... العدالة كما هي ويفهمها كل البشر وأدنى درجاتها هو حق الأفراد في إشباع حاجاتهم المادية بأي وسيلة كانت بغض النظر عن النظريات والكلام عن النظم الاجتماعية، أو الثورة وإنهاء أي أطروحة فكرية لا تلبي هذه الحاجة ومن دون فلسفة وتفسيرات الجالسين وراء الكراسي الوثيرة من منظرين ومتفلسفين. والاقتراب العملي من العدالة في الظروف الحالية، والذي بدا واضحا عجز الطبقات الشعبية الضعيفة عن كفاية نفسها بإمكانياتها الذاتية، هذه الحال تتطلب تدخل الدولة كما أثبتت ذلك التجربة البشرية وما مرت به من أحداث، وهو ما حصل سابقا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أقدمت الدول الرأسمالية المتقدمة على التنازل عن أهم مبدأ رأسمالي فيها ألا وهو إقصاء الدولة عن التدخل في الشأن الاقتصادي، فأصبحت الدولة منذ ما بعد الكساد الكبير الذي ضرب أميركا منذ سنة 1929 تتدخل بصورة كبيرة من أجل توفير الرفاه لشعوبها بفرض الضرائب على أصحاب الدخول الكبيرة من أجل تعديل الميزان الاجتماعي وتقليص التفاوت الفاحش في المستوى المعيشي وتوجيه الشأن الاقتصادي.
التاريخ يعيد نفسه، فنحن الآن على أبواب مرحلة من التاريخ ستدفع الدولة لتحمُّل مسئولية توفير الرفاه لشعوبها بعد أن تتفاقم الأزمات التي بدأت بوادرها في الوقت الحاضر والتي أثبتت التجربة التاريخية عدم قدرة آليات السوق الحرة من حلّها بصورة تلقائية من دون تدخل الدولة، وبذلك ستكون الدولة أمام خيارين إما التدخل أو مواجهة ثورة جياع قادمة قد يتقدم موجتها ويركبها أي فكر يتبنى هذه الثورة.