التهديد المحدق بالمجتمع... ثقافة المترفين
طالما ُضبط بعض المراهقين وهم متورطون في جرائم السرقة والتعدي على ممتلكات الغير. مَنْ ينكر وجود الفقر فهو إما أعمى البصيرة أو يتعامى، غير أن ما يقوم به هؤلاء المراهقون من سرقات ممن لا تتعدى أعمارهم السابعة عشر ربيعا، لا علاقة لها بنقص يعتريهم من الحاجات الضرورية من ملبس ومأكل... الخ، ولو استنطقتهم لعرفت أن الدافع الرئيسي لاقترافهم هذه الجرائم له علاقة بثقافة جديدة تتهدد القيم الاجتماعية الإسلامية العالية بالتراجع مستقبلا إن لم يتم تكثيف التوعية وتأكيد مكانة هذه القيم في صياغة تفكير الفرد ومن ثم تهذيب سلوكه الذي لا يعدو كونه انعكاسا وتجسيدا لذلك التفكير.
فأكثر ما يطمح لتحقيقه بعض هؤلاء المراهقين يتمثل في الحصول السلع التي أصبحت وسائل للترفيه أكثر منها حاجات ضرورية بالنسبة لهم، كسعي بعضهم لاقتناء أحدث تلفون نقال - مثلا- أو ما شابه ذلك من أدوات تعكس النزوع نحو الترفيه أكثر منها حاجات أصيلة لمثل هذه الأعمار من الأفراد. ولا يمكن بحال إشباع نهم النفس لمثل هذه السلع، فهي تتجدد بأحدث الموضات وأبهظ الأسعار، لذلك ليس بمستغرب أن تقبض الشرطة على بعضهم ممن ينتمون لعوائل متوسطة الحال قد تورطوا في جرائم السرقة.
إنها ثقافة الاستهلاك التي يروّج لها المترفون في الأرض بواسطة شركاتهم العملاقة. وبحسب دعوى البعض، ان هذه الثقافة بدأت تنخر في بعض المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، حيث تنتمي كبريات الشركات الإنتاجية العملاقة. ويقول أحد القاطنين في أميركا منذ أكثر من عقدين من الزمن ومتزوج من أميركية، أنه ربما تجد في البيت الأميركي عددا من المكنسات الكهربائية، إذ تسارع ربة البيت لاقتناء أحدث ما تنتجه الشركات حتى في مستوى أجهزة الكنس، فضلا عن أنواع السلع الاستهلاكية الأخرى.
والهدف يكمن في تمكين تلك الشركات من الاستمرار في الإنتاج بوتيرة عالية نظرا لارتفاع الطلب على منتجاتها وذلك بترويج ونشر ثقافة الاستهلاك. ولكن الذي يدفع ثمن هذه الثقافة هي قيم المجتمع الأخلاقية، فربما تورطت بعض الأسر في مشكلات الديون التي تراكمت عليها التي دافعها مجرد الحصول على أحدث السلع أو الاستدانة لمجرد السفر والترفيه عن النفس.
ولطالما قادت ثقافة المترفين بأشكالها المختلفة المجتمعات للدمار والخراب، ويؤكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة من أن المترفين في الأرض هم السبب وراء نزول عذاب الاستئصال على المجتمعات، قال تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»، (الإسراء:16)والترف بمعنى التوّسع في النعمة. وكل غريب وجديد مما يتنافى مع الذوق العام، لا يمكن أن يرّوجه سوى المترفون، ويتبعهم عامة الناس فيما بعد. أترى أن الناس ستقلد الفقراء حين يلبسون البنطال الممزق أو القصير أو الذي يظهر جزءا من العورة كما نشاهده حاليا؟
طبعا لو حاول بعض عامة الناس ترويج تلك البدعة لأصبحوا محل التندّر والسخرية. غير أن المترفين هم القادرون على ترويج مثل هذه المظاهر، وذلك لما يملكونه من قوة ونفوذ ووسائل التأثير على الرأي العام والقدرة على تغيير قناعات الأفراد، سواء من خلال سيطرتهم على جزء هام من وسائل الإعلام من صحف وفضائيات ومواقع الكترونية، أو غير ذلك من وسائل التأثير كتغلغلهم وتأثيرهم على السلطات. وطالما أفسد المترفون - حماية لمصالحهم - على المصلحين من أنبياء ورسل وغيرهم دعواتهم الإصلاحية. إذ ان ما يملكونه من سلطة ونفوذ تمكّنهم من تنفير الناس من دعوات الإصلاح، كاللجوء للدعايات الرخيصة والتسطيح الفكري للأمور، كوصم نبيهم مثلا بالجنون أو تلفيق تهمة السحر التي تُعد من التهم الخطيرة في تلك العصور.وربما اغتالوا رسولهم في حال العجز عن إيقاف تأثيره على الناس، لأن مصالحهم تستمر في حال سيادة ثقافتهم بين الناس.
والمترفون هم الذين يبتدعون الألعاب ويقامرون عليها بالملايين لمجرد التسلية، ويدفع بعضهم آلاف الدنانير من أجل مشاهدة مسابقة رياضية خاصة بطبقتهم. ومصيبة المجتمعات حين يحاول الأفراد تقليد المترفين خاصة في ثقافة الاستهلاك. ويبدأ هذا المرض بالذات بالمراهقين الذين تزّين لهم وسائل إعلام تلك الثقافة، فيصطدمون بقصر ذات اليد، مما قد يدفع بهم نحو السرقة والسطو، وبازدياد هذه الحالات الفردية وإمكانية تحولها لظاهرة مجتمعية، يفسد المجتمع.
بجانب ذلك كله، فإن المترفين هم السبب وراء فساد الحياة الاقتصادية في بعض الدول وانتشار الفقر وصعوبة الحصول على الحاجات الحيوية، لأن بيد هؤلاء أكثر قدرات تلك المجتمعات الاقتصادية، وبأيديهم توجيه الحياة الاقتصادية وجهود الإنتاج نحو سلع معينة، وانحسارها عن قطاعات أخرى كالزراعة، فترتفع بالتالي أسعار السلع الحيوية. إن الحاجة ملّحة لتأكيد مكانة قيم المجتمع الدينية الأخلاقية، والنفور من الأنشطة الترفية، والتأكيد على الجد في العمل الذي رفع الإسلام من قيمته إلى درجة العبادة حتى ورد «العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال» وذلك في مقابل ثقافة السهر والكسل والانغماس في طلب وسائل الترفيه واللهو وإضاعة الساعات في بعض ألعاب التسلية. وطبيعي أن الدولة تتحمل قسطا وافرا في دفع المجتمع نحو ثقافة المترفين بما تدعمه من مشاريع خاصة بإشباع رغباتهم تحت دعوى أنها مشاريع اقتصادية، وكذلك لها القدرة على العمل على حفظ المجتمع وصونه من مخاطر تلك الثقافة خاصة بالقضاء على التعطّل وتدني الأجور باستبدال الأجنبي بالمواطن.