ابتلعوها باسم الدين
التكفير أمرٌ لابد منه في حياة البشر سواء بصورة كلية أو جزئية. ولأن الكفر بشيء نقيض الإيمان به، لا يوجد فرد من البشر إلا ويكفر بمذهب من المذاهب أو جزء من أفكار هذا المذهب، فمن لا يؤمن بالإسلام فهو حتما كافر به، ومن لا يؤمن بالمسيح فهو كافر به... إلخ.
وقد حث القرآن الكريم المسلمين على الكفر بما يخالف المبادئ الإسلامية السامية، فمدح من يكفر بالطاغوت كقوله تعالى: «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها» (البقرة: 256)، والطاغوت صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الاعتداء وتجاوز الحدود، وكل ما ينتهي لغير الله فهو طاغوت، قال تعالى: «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به» (النساء: 60)، فالطاغوت هنا من يحكم بغير الحق الذي أنزله الله، وقد مدح الله من لا يتحاكم إليه واعتبر أن إيمانه لا يكتمل إلا بالكفر به.
فالكفر بمذهب من المذاهب الدينية والوضعية أو اعتبار من لا يؤمن بمذهب أو دين كافر به، أمر حتمي بالمعنى السالف ذكره، ولكن المشكلة حين تستحل جماعة من البشر ظلم الآخرين ومصادرة حقوقهم المالية وحقهم في الحياة أو غيرها من الحقوق بسبب الخلاف في المذهب والمعتقد. وفي مثل هذا التفكير خطورة كبيرة على المجتمعات وبالذات المجتمعات المتنوعة أيديولوجيا. وقد ذمَّ القرآن الكريم جماعة من اليهود بسبب أنهم كانوا يستحلون الاستيلاء على أموال الآخرين من مشركين ومسلمين، ويعتبرون الخلاف العقائدي معهم سببا كافيا يستحلون به أموالهم ويخونون الأمانة، يقول تعالى: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما» (آل عمران: 75).
ثم يوضح القرآن السبب وراء هذا السلوك العدائي والمستحل لأموال الآخرين بقوله: «ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميِّين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» (آل عمران: 75)، يقول الطبرسي: «هذا بيان العلة التي كانوا لأجلها لا يؤدون الأمانة، ويميلون إلى الخيانة أي: قالت اليهود ليس علينا في أموال العرب التي أصبناها سبيل، لأنهم مشركون» (تفسير مجمع البيان - ج 2 - ص 326). ويقول السيد ابن طاووس: «إن فيهم من يؤدي الأمانة إلاّ في الأميين الذين هم العرب وأصحاب محمد (ص) أنهم كالمستحلين لأموالهم، لا يعدون ترك الأمانة فيه خيانة» (سعد السعود، ص 186).
فهذه الجماعة من اليهود زعموا كذبا أن التوراة تبيح لهم ظلم من خالفهم في المعتقد من العرب والمسلمين، أي أنهم يدوسون على القيم الأخلاقية الإنسانية السامية كالأمانة والتي حث عليها الدين متوسلين بالخلاف في الدين من أجل مكاسب دنيوية.
وليس أشد فتكا على العلاقات بين البشر من مثل هذا التفكير، فهناك من لا يؤدي الأمانة مع اعتقاده بخطأ سلوكه ويرفض التعامل معهم على شاكلته، ويوجد من يكذب وهو يبغض الكذابين ولا يوجد حاكم ظالم يقبل بوصفه بأنه ظالم... ولكن ما أعظم الخطر عندما يسوغ الفرد لنفسه هذه الأفعال الظالمة والأخلاق المذمومة من منطلق عقائدي ديني! ومن أبرز الأمثلة التاريخية في هذا المجال هو الحجاج، فهو على ما اقترفته يده من جرائم بشعة، يقول: «والله لا أرجو الخير إلا بعد الموت»، فقد اعتبر كل جرائمه التي اقترفها في حق أهل البيت (ع) وعامة الناس قربة لله يرجو من ورائها الثواب منه بعد الموت.
وليت بعض الفئات المتجلببة بجلباب الدين في ساحتنا المحلية تستوعب مدى اقتراب سلوكها في الواقع العملي مما سبق ذكره وهم يمارسون وبمساعدة وتشجيع من بعض الجهات الرسمية مختلف أنواع الظلم في حق الآخرين وخاصة عندما يحرمونهم من حقوقهم في الوظيفة والمنصب ويمارسون التمييز على أساس الطائفة والمذهب بأشكاله الوقحة في مختلف المؤسسات الرسمية التي تقع تحت نفوذهم. ومن الأمثلة التي جرت حديثا، قيام ديوان الخدمة المدنية بتوظيف للجامعيين على أسس طائفية، وكذلك ابتلاع جماعة دينية معروفة معظم الوظائف المهمة في بيت الشعب نفسه (مجلس النواب). فهل من الأمانة للمنصب الذي فيه مصالح الناس تنصيب من لا يستحق إلا لكونه منتمٍ للحزب أو الطائفة، أم أن الأمانة والخيانة فقط في تسليم المال والمتاع؟ مع ذلك لا يتورع الكثير من هؤلاء من نكران وجود التمييز الذي يشاركون في فرضه لعلمهم بقبح هذه الممارسات غير الأخلاقية والتي ينطلقون في ممارستها من منطلق الخلاف العقائدي مع الأطراف الأخرى كما هو معلوم من الفتاوى التي يستوردونها من بعض دول الجوار التي توجب عليهم هذا السلوك تجاه الآخر، وكتيباتهم وأقراصهم المدمجة التي يتم توزيعها مجانا في جمعياتهم وغيرها من الأماكن... فما الفرق بين ممارسات هؤلاء ومن ذمهم القرآن؟... ويبقى السؤال: من المسئول الحقيقي عن هذه الأوضاع؟