الاتفاقيات الحقوقية... التعذيب أنموذجا
مسألة استصدار قانون للأحوال الشخصية (أحكام الأسرة) محل تأييد قوي ومن دون شروط من قبل الطرف العلماني، بينما التيار الإسلامي وبالذات تيار «الوفاق» ومعها «أمل» لا يعارض استصدار القانون، ولكنه يطالب بضمانات بقاء مواده وفقا للشريعة الإسلامية في حال إجراء تعديل على بعضها مستقبلا، وذلك عن طريق تعديل دستوري يحقق هذا الغرض.
وفي فترة من الفترات، امتد الخلاف بين الطرفين بشأن الأحوال الشخصية إلى أقوى فصائل المعارضة وكاد يشقها فيما سبق نصفين، ويفصل التيار الإسلامي الشيعي المعارض عن التيار العلماني بمختلف أطيافه. الآن، من غير المُستبعد تجدد الصراع ولكن بخصوص بعض الاتفاقيات الدولية الحقوقية التي تثير بعض موادها هواجس الإسلاميين، لأنها في نظرهم تمس الخصوصية الدينية للأفراد. ولكن هل تستحق المسألة تفجّر نزاع بين أقطاب المعارضة، وخاصة بين الإسلاميين والعلمانيين فيما يتعلق بانضمام الدولة لمثل هذه الاتفاقيات؟
الأحداث الأخيرة أثبتت هشاشة موقف الحكومة من هذه الاتفاقيات، وما تصريحات معتقلي كرزكان أمام القاضي وفي كل جلسة محاكمة سوى دليل على أن هذه الاتفاقيات في الظرف الحالي من تغوُّل سلطة الحكومة قبال سلطة الشعب، لا تستحق أن تثير نزاعا بين أطراف المعارضة، فالمعتقلون يؤكدون تعرضهم لتعذيب مبرمج على المستوى الجسدي والنفسي، فهناك من كُسر أنفه وآخر قال إن رجال الأمن قاموا بتصويره وهو في بيت الخلاء، والبعض أخبر القاضي بأن رجال الأمن هددوهم بانتهاك أعراضهم بل التهديد حتى بانتهاك أعراض زوجاتهم، وصرح آخر أمام القاضي بأنهم سحبوه من (...)... وغيرها من ممارسات يندى جبين الإنسانية لذكرها فكيف بممارستها... هذا كله مع أن الدولة انضمت لاتفاقية منع التعذيب منذ العام 1998، إلى جانب وجود معارضة أخذت على نفسها عهدا بفضح هذه الممارسات المحرمة. إذا، كيف الحال لولا وجود ذلك كله؟
المسألة بكل بساطة، أن الاتفاقية الحقوقية عبارة عن قانون يتفوق على القانون المحلي، ولكن الذي بيده تنفيذ القانون هو الحكومة. والقانون لدينا يتم تنفيذه بانتقائية، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، فالسواحل تُدفن من دون رخصة من البلدية وآخرها ما يجري حاليا لساحل كرباباد، ومصادرة الأراضي لا تتوقف حتى سطا المتنفذون على المقابر كمقبرة كرانة وحولوها إلى قسائم سكنية للبيع بأغلى الأثمان، وفي كل صغيرة وكبيرة فإن المساواة أمام تطبيق القانون مُفتقدة، وما نشرته بعض الصحف بشأن قيام ديوان الخدمة المدنية بتوظيف 2000 جامعي على أسس الانتماء الطائفي سوى نموذجٍ يدلل على عدم المساواة أمام تطبيق القانون، بل والإمعان في الانتقائية الرسمية في تطبيقه بلا حياء أو خوف من محاسبة وعقاب، وهذا يعني وجود ضوء أخضر من جهات متنفذة تقف وراء دعم هذه الممارسات وتضمن الحماية لمن يقوم بها.
ولاشك أن الانتقائية في تطبيق القانون يمتد بصورة أقوى لينطبق على تطبيق مواد الاتفاقيات الدولية الحقوقية التي تُعتبر قانونا، إذ إن الجهة المتُفق معها هي منظمات دولية لا تمتلك سلطة إرغام الدولة على نزاهة تطبيق الاتفاقية التي وقعتها... بل حتى الاتفاقيات غير الحقوقية فإن بعض نواب الادعاء العام أصلا لا يعرف أن توقيع الدولة عليها نتج عنه بطلان بعض القوانين المحلية، لذلك استمر يستند إلى قوانين باطلة في رفع الدعاوى، ومثال على ذلك ما صرحت به إحدى الجهات الرسمية من أن النيابة العامة قدمت عددا من أصحاب المحلات التجارية للمحاكمة وذلك في سنة 2006 بتهم تتعلق بالتلاعب بالأسعار وذلك استنادا إلى المرسوم بقانون رقم 18 لسنة 1975 الخاص بتحديد ومراقبة الأسعار، مع أن القانون أصبح باطلا منذ أن وقعت الدولة اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، ولكن الجهات الحكومية المعنية استمرت ترفع الشكاوى استنادا إلى مثل هذا القانون، ولم تعرف ببطلانه إلا مؤخرا جدا.
وإذا كان هذا هو الحال فيما يتعلق بالاتفاقيات مع دولة كبرى كأميركا فإن الوضع حتما سيكون أسوأ فيما يتعلق بالاتفاقيات الحقوقية... وبالتالي ألا يجدر تعليق أي صراع محتمل بين أقطاب المعارضة بخصوص اتفاقيات غير مضمون تطبيقها، وخاصة أن الملف السياسي الذي يُعد الأساس للتصحيح مازال لم يتزحزح من مكانه؟ ألا ينبغي التوقف عن أي خلاف يمكن أن يشعله الطرف الرسمي فيما يتعلق بانضمام البلد لاتفاقية حقوقية حساسة حتى الانتهاء من الملفات الساخنة ذات الهم المشترك؟
إن النظام لن يصبح إسلاميا عندما يراعي الشريعة فيما يتعلق ببعض القوانين ذات الخصوصية المذهبية كالأحوال الشخصية، وكذلك فإن الدولة لن تصبح ديمقراطية علمانية على النمط الغربي عندما تعلمن تلك القوانين أو حين تقوم بتوقيع الاتفاقيات الحقوقية المثيرة لهواجس الإسلاميين، فإحدى الحكومات التي تُعد من أشد الحكومات العربية بطشا بالمعارضة، انضمت لكل هذه الاتفاقيات إرضاء للغرب فقط ولكن لم ترضَ عنها الأمة بإسلامييها وعلمانييها، والإقصاء عن المشاركة في القرار شمل كل الأطياف المعارضة من دون تمييز بين إسلامي وعلماني وذلك لصالح استبداد أفراد الجهاز السياسي الحاكم.