شهر رمضان المبارك بين حلاوة الماضي ومآسي الحاضر
قبل أكثر من 50 عاما خلت كنا نسكن في مدينة المنامة، وبالتحديد في فريق الفاضل، ومن جيراننا القريبين في ذلك الوقت: عائلة قابندي ومجبل والذكير وخلفان، والخاجة وعبدالرحيم، والمديفع والصائغ والمشعل والعبار وغيرها من العوائل الطيبة، وإذا ما مشينا على أقدامنا أمتارا معدودة نصل إلى الحي الذي تقطنه عوائل: العريض، بن رجب والقصاب والمرزوق، وبن رضي ولطف الله والتتان، وعوائل كريمة أخرى، فكان شهر رمضان المبارك في ذلك الزمان يمتاز بأجوائه الروحانية التي تقوي علاقة العبد بربه أولا، وعلاقة الإنسان المسلم بأخيه المسلم ثانيا، التي تختلف عن بقية شهور السنة. قبل أذان المغرب بساعة تقريبا يشارك أبناء الأحياء في رسم لوحات رائعة بريشة الوفاء والمحبة، حيث يقومون بتبادل الوجبات الرمضانية المتنوعة بينهم، بكل أريحية ومن دون تكلف أو تملق، ولم نكن نسمع منهم التصنيفات الطائفية والمذهبية البغيضة التي نسمعها في هذا الزمن العصيب.
وتجد من أول ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك إلى آخر ليلة فيه، المساجد والمآتم والمجالس تفتح أبوابها لتلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية المأثورة وللوعظ والإرشاد ولإقامة الصلوات المندوبة، وبعد الانتهاء من البرنامج الروحي والاجتماعي، يضعون الموائد لمرتاديها التي تحوي مالذ وطاب من المأكولات، مثل: البقلاوة والهريس والكباب واللقيمات (القيمات) والمحلبية والسمك الصافي المقلي والرز والفواكه المشكلة، وغيرها من الحلويات والموالح المنوعة، وترى قلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم تستوعب الجميع، تجدهم كالجسد الواحد، يفرحون جميعا ويحزنون جميعا، فلا تجد أحدا يردد عبارات وكلمات طائفية أو مذهبية، ولا أحد يشمت على غيره إذا ما أصابته مصيبة أو نائبة والعياذ بالله، ولا تجد أحدا يرقص فرحا على جراحات ومآسي الآخرين. في ذلك الزمان الجميل تعتبر تلك السلوكيات ممقوتة وشاذة، ومن يقوم بها يقولون عنه أنه غير سوي نفسيا وإنسانيا، وكان الحي (الفريج) يعج بالأطفال الذين يتوزعون إلى مجموعات، وكل مجموعة منهم تمارس الألعاب الخاصة بشهر رمضان، مثل لعبة الصرقيع والحلال والخشيشة وغيرها من الألعاب المسلية، والنساء والفتيات لهن أجواؤهن الرمضانية الخاصة، حيث يكثرن من تزاورهن لبيوتات بعضهن بعضا، ويتبادلن الأحاديث والحكايات الجميلة التي تمتاز بالعبرة، لم تغب تلك الصور الرائعة عن ذاكرتنا، وخصوصا تلك الصورة التي يتجمع فيها الأطفال قبل الأذان بنصف ساعة تقريبا، ويذهبون جميعا مشيا على أقدامهم إلى فرضة المنامة ليستمعوا عن قرب إلى مدفع الإفطار الذي كان يطلق من هناك، وبعفوية وبراءة تراهم بعد سماعهم المدفع يركضون بسرعة فائقة إلى مناطقهم، وهم يرددون «أدن أدن» يعني حان وقت الأذان أيها الصيام هيا أفطروا، ولهذا إذا ما انتابنا الحنين والاشتياق لتلك الأيام الخوالي، تعنينا إلى المنامة على رغم صعوبة الحصول على مواقف للسيارات، لكي نتجول بين أحيائها التي ترعرعنا فيها وقضينا أجمل أوقاتنا في ربوعها وبين أهلها الطيبين.
وفي جولتنا كأننا نرى الحاج خلف الصائغ رحمه الله جالسا على كرسيه الخشبي، والكبار والصغار يجلسون حوله يستمعون إلى حكاياته الجميلة، وإذا ما أفقنا من أحلامنا الوردية ورأينا واقع الأحياء المؤلم الآن نصاب بالأسى والحزن الشديد، وخصوصا إذا ما نظرنا إلى تلك البيوت التي كانت عامرة بأهلها، يسكنها الآن الآسيويون والمهاجرون ومن مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، ولا نجد فيها إلا القلة القليلة من المواطنين البحرينيين، كنا نتمى أن تكون (المنامة) قلب العاصمة النابض واجهة سياحية جميلة للبلد، لكي يستمتع السواح الأجانب والعرب بتقاليد وعادات وثقافات أهلها الكرام، من المؤسف جدا أن يشاهد السائح شوارع المنامة وطرقها وأزقتها ومحلاتها الصغيرة والكبيرة وكل زواياها شبه خالية من المواطنين، ولا نبالغ إذا ما قلنا ان البحريني أصبح عملة نادرة في الكثير من مناطق المنامة، وأن وجد في منطقة من مناطقها يرى نفسه غريبا في وسط المجتمعات والتجمعات الأجنبية والمهاجرة، التي تشكلت بشكل واضح في العشرين سنة الأخيرة.
بعض المواطنين الذين قاموا بتأجير أو بيع مساكنهم للأجانب بإرادتهم مقابل حصولهم على مبالغ زهيدة لا تغني ولا تسمن من جوع، إذا ما سألت بعضهم لماذا ذهبتم إلى هذا الخيار غير الإيجابي لكم ولبلدكم؟ تجدهم يقولون لك، ماذا تريدنا أن نفعل في بيوت صغيرة، وطرقات وأزقة ضيقة جدا؟ هذا الحال المأساوي جعلهم كما يقولون بين 3 خيارات لا رابع لها، الخيار الأول؛ أن يبقوا في بيوتهم على رغم صغرها وضيق غرفها ومحدودية مساحتها، حتى ولو عانوا كثيرا في الجانبين الصحي والاجتماعي، والخيار الثاني؛ أن يبيعوا بيوتهم بثمن معقول، يعينهم على شراء بيوت أخرى لهم في مناطق خارج المنامة، وفي هذا الحال لا يهمهم إن كان المشتري بحرينيا أم أجنبيا أم مهاجرا، كل ما يهمهم هو الذي يعطيهم الثمن الأعلى، والخيار الثالث؛ هو أن يقوموا بتأجيرها بالمبلغ الذي يحددونه، ولا يهمهم أيضا جنسية المستأجر، أجنبيا كان أم بحرينيا، وهؤلاء قد يقولون انهم غير مسئولين عن تحول المنامة من مسكن للمواطنين البحرينيين إلى مسكن للأجانب في سنوات معدودة، وبحسب رأي بعضهم، فإن هذه المسئولية تتحملها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، الأولى (السلطة التشريعية) بمقدورها سن قوانين تقنن أو تحظر على المواطن بيع أو تأجير بيوتهم للأجانب، والثانية (السلطة التنفيذية) باستطاعتها القيام بإعداد وتنفيذ مخطط جديد ومتطور لمناطق المنامة، لكي يسمح للمواطن البقاء فيها من دون أن يعاني الأمرين في الدخول إليها بسيارته، وأن تعمل وزارة الإسكان وحدات إسكانية حول المنامة، تكون خاصة لأبناء المنامة، أسوة بأقرانهم في الكثير من مناطق البحرين .
بالتأكيد لا يمكن تحقيق هذا المطلب إلا بتوافر الأراضي الكافية لذلك، وتوافرها ليس بالأمر المستحيل كما نعتقد، ويمكن أن يحصل عن طريق الدفان المدروس والمقنن، الذي لا يكون سببا لتدمير البيئة البحرية ولا يساهم في إحداث تداعيات بيئية أخرى، ما من أحد من سكان مدينة المنامة سابقا يتجول بين أحيائها، كالفاضل والحطب وكانو والحمام والمخارقة والقضيبية والذواودة والعوضية وغيرها من الأحياء، إلا ويشعر بالأسى والحزن على فرجان أول، التي كانت منبعا للفضيلة والأخلاق والمحبة والتسامح والوئام والتجانس والتعايش والتآلف الاجتماعي والإنساني، نقول مازالت الفرص سانحة للسلطتين (التشريعية والتنفيذية) تحقيق هذا الطموح الكبير، الذي هو طموح جل عشاق المنامة كما نعتقد.