العدد 5380 بتاريخ 30-05-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةالأعمدة
شارك:


تمّ... كرامة في العراء

ارتبط شهر رمضان ارتباطاً وثيقاً بالعطاء، كونه شهر الخير والبركة للمسلمين. ويتنوّع العطاء ويأخذ أشكالاً متعددة تبدأ من الزكاة وتطهير المال، كما تزدهر الصدقات ولا يقلق المحتاجون والأقل حظاً في هذه الحياة على وجبتهم اليومية التي سيجدون من يتكفل بها وبما يفيض عنها، توسلاً للثواب والأجر.

ويجتهد فاعلو الخير من جمعيات وأفراد لاستكشاف مواطن الحاجة عند المتعففين خاصةً ليقدّموا لهم ما يلبي حاجتهم دون المساس بكرامتهم. فيما تتسابق الشركات في إعلاناتها على شاشات التلفزيون، حيث تجتمع معظم الأسر في أمسيات رمضان في نشر ثقافة العطاء لتنمية الجانب الأخلاقي والتراحم بأشكاله المتعددة في المجتمع كجزء من مسئوليتها تجاهه، لتؤكد بأن العطاء ليس بالضرورة مبلغاً من المال وإنما عمل تطوعي أو سلوك طيب أو حتى ابتسامة تقع في نفس متلقٍ هو في حاجة لها.

كل هذه الجهود تفتح خلايا الخير في المجتمع وتنشطها، وتجعل من العطاء سلوكاً معدياً، وربما كان هذا أمل القائمين على البرنامج التلفزيوني «تم» الذي يبث على قناة البحرين.

هذا البرنامج المبتكر، الذي أخرجه الكثير من الجهد إلى النور ولقي إعجاب الكثيرين الذين أكبروا في الشباب الذي أعدوا وأخرجوا هذا العمل بعد جهد واضح وبحث، نماذج أعاد لها العطاء الابتسامة، نسي في غمرة الإحساس بالنجاح بما حققه من سعادة لأشخاص كانوا على حافة البؤس لحاجة مزمنة أو طارئة ألمت بهم، أنه من جانب آخر عرّى عوز وحاجة هؤلاء الأشخاص على القناة الفضائية الوطنية التي ستكون متاحةً للمشاهدة من أي مكان في العالم. وذلك بالإغراق في السؤال عن تفاصيل حالة الأشخاص الذين تمت مساعدتهم، واستغلال بساطتهم، التي اقتربت من السذاجة التي تجعل الشخص المستهدف يتجاوب مع جهاز آلي، ويتحدث إليه بكل انفتاح عن شئونه الشخصية وأمور عائلته الخاصة كما يتحدّث لطبيب نفسي يطمئن إلى أن بيده الحل بعد أن يكشف إليه كل أسراره التي ربما يخجل من ذكرها خارج العيادة.

لا يختلف اثنان على نبل الهدف بتقديم المساعدة بعد البحث والتأكد من وجود الحاجة الماسة لها، إلا أن هذا العمل له طرفان، وقبل اختيار وسيلة تلبية الحاجة لا بد أن يوازيها أسلوب يحقّق الهدف دون الذهاب إلى حافة كرامة المتلقين للمساعدة والعبث بها أمام الملأ حتى يبقى الهدف من العطاء كبيراً ومثالاً يحتذى به، دون أن يرتبط في أذهاننا وفي ذاكرة من تتم مساعدته وعائلته بـ»اختناقه بالعبرات» ولمعان الدموع في عينيه.

وسواءً أكان العطاء مرتبطاً بالشهر الكريم الذي تتكثف فيه العبادات وممارسات الأعمال الخيرية، أو في أي وقت آخر، فلنأخذ بالآية الكريمة «إن تُبدوا الصدقاتِ فنعمَّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفّر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير». كما ورد في الأثر الدعوة إلى المبالغة في سريّة منح الصدقة بأن «من يعطي بيمينه لا تطلع شماله على ما أعطى».

وفي المسيحية أيضاً ورد ما ينهي عن العطاء في العلن: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم. وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات». وأيضاً «... فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية».

وفي أدب العطاء المباشر ليصبح عملاً مكتملاً، على المعطي أن يغض البصر فلا ينظر في عين المحتاج كي لا يرى فيها ذلاً حين استلامه، وأن يتواضع المعطي بأن يخفض يده بما يتصدّق به ليجعل يد المستلم هي الأعلى. وبذلك يصبح العطاء عملاً يرتقى بالفكرة والمعطي والمحتاج في آن. أما أن تثبّت كاميرا التلفزيون على وجه صاحب الحظ (لا أعرف إن كان وصفه السيء أم السعيد) لتظهر ملامحه وهو يتحدّث على مساحة شاشة حجمها 60 بوصة فهذا هدرٌ لعمل الخير ولكرامة المتلقي.

هناك اختلاف كبير بين الدعوة إلى فكرة العطاء وبين تسليط الضوء على المستفيدين من هذا العطاء حتى النيل من كرامتهم. وهناك اختلاف أيضاً بين من يفعل الخير من أجل رفع المعاناة عن المحتاجين لذلك من أبناء مجتمعه، وبين من يبهرج فعل الخير حتى يفقده قيمته ويضع فوق حاجة المحتاج عبء النيل من كرامته أمام الملأ.

الجانب الآخر والأهم هو أن المجتمعات في كل الدنيا لا تخلو من المعوزين لأي سبب كان، وليست هذه الصورة هي أجمل ما لدينا لكي نبرزها أمام العالم، فتُختصر صورة البحريني في إنسانٍ يعاني من العوز، لتأتي على فخره بنفسه وتُفقده كرامته أمام العالم.

الوطن هو بيت كبير والناس فيه كأفراد الأسرة، وللمحافظة على صورة وكرامة هذا البيت، على من فيه أن «يتقاسموا الحلو والمر» ويحلّوا مشاكلهم في الخفاء فيما بينهم ليظهروا أمام العالم بما يليق بالصورة التي يريدون أن يراهم العالم عليها. فالعالم لن يرانا إلا من خلال أعيننا التي نرى أنفسنا بها.



أضف تعليق



التعليقات 3
زائر 1 | 2:44 ص في ناس فيهم من السلبية ما يبهرني. أولًا، البرنامج اعلن في شارة البداية كون البث برضى الناس. ثانيًا، ملاحظ جدًا الرقي في العطاء، ما كان في شخص يتكلم شخصيًا مع الناس للتأكد من عدم شعور الشخص بالامتنان لشخص معين. بالعكس كانت كيفية طرح مشاكل الناس بمستوى عالي من الأدب والأخلاق ولا احد منهم تم مس كرامته بسرد مشكلته بالتفاصيل او تبيين حاجته او جعله يشحذ، كان العطاء على صورة هدية أكثر من انها مساعدة، وكانت الدموع دموع فرح وليست دموع انكسار أو حاجة. قواهم الله. رد على تعليق
زائر 2 | 5:01 ص عزيزتي هناء - كم تمنيت منك الثناء على هذه البادرة لكي لا تؤد - و اما عن المجاهرة فهي ليست بصدقة و إن كانت فهناك نوعان سر و علانية و مذكورة في القرآن الكريم - البرنامج قد يفز الكثير للمساعدة و اغلبهم دون النظر بأن هناك فريضة دينية بالاساس - عموما برنامج قد يكون بداية تغيير لنفس البحريني الشحيحة و المترددة في المساعدة - و المشاهد عجبه كيف لهم ان يتبرعوا اكثر من لمن تبرعوا - رد على تعليق
زائر 3 | 5:45 ص شكراً يا استاذة هناء على هذا المقال الصادق،،كنت قد فقدت الامل في أن يكون هناك قلم حُرّ .
الكرامة المسكوبة للشعب الكريم رد على تعليق