والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة
أقرأ هذه الأيام كتاب الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش «هروبي إلى الحرية».
بيغوفيتش (رحمه الله) كان مناضلاً كبيراً من أجل الحرية، دخل السجن في يوغوسلافيا أثناء حكم الرئيس الأسبق جوزيف بروز تيتو، كما دخله بعد وفاته حيث بدأت مرحلة تفكّك الاتحاد اليوغوسلافي، وقاد نضال شعبه نحو الاستقلال وإعلان جمهورية البوسنة والهرسك.
في «هروبه نحو الحرية»، يستعرض تأملاته وتعليقاته وآراءه في الكثير من القضايا الأدبية والسياسية والحياتية، وهو رجلٌ منحازٌ نحو الحرية وضد الاستبداد، ولذلك يشير بذكاءٍ إلى إحدى ميزات البشر: «على خلاف الحيوانات، وهبنا الله نحن البشر الخطو المنتصب، والكثيرون منا لا يستثمرون هذا الامتياز، فهم ينحنون طوال الحياة أو يقرفصون»، ويتساءل مستغرباً: «كيف يقدرون على ذلك؟ أليس ذلك كفراً لهذه الهبة الإلهية الكبيرة: أن نسير باستقامة (مرفوعي الرأس)؟».
إنه كإنسان ولدته أمه حراً، يستغرب وجود فصيلةٍ من البشر لا تريد أن تعيش إلا ذليلةً محتَقَرَةً، وتكره كرهاً شديداً أي شخص يفكّر بالحرية أو يحلم بالكرامة والعيش الشريف، فتجدها تحرّض عليه وتطالب بإقصائه واستباحة حقوقه، وإن أمكن هدم منزله على رأسه، أو قتله للتخلص منه نهائياً، كما كان يفعل تنظيم «داعش» بأهل الموصل.
بيغوفيتش رحمه الله، يكره هذه الفصيلة السيكوباثية المريضة، ويضرب عليها مثلاً بما يفعله الفلاحون في إيطاليا، (ربما يُستخدم ذلك مع البقر في مصر ودولٍ أخرى) «فبدلاً من ضرب الحمار لحثّه على المشي، والذي قد لا يُحدث أي تأثير أحياناً، فإنهم اخترعوا خدعةً، بأن يربطوا على رأسه عشباً طازجاً بطريقةٍ يراها الحمار أمام ناظريه، ويعتقد بأنه سيصل إليها». ويتساءل بيغوفيتش متهكماً من هذه الفصيلة المريضة نفسياً: «ألا يشبه الكثير من الناس هذه الحمير؟ أوَليس بعض الناس يصنعون من الآخرين حميراً، مثل تلك التي في إيطاليا؟». (يمكنكم مراجعة النص صفحة 66 - 67 للتأكد من نوعية هذه الحمير!).
أفكار بيغوفيتش مرتّبةٌ بالأرقام، فالخاطرة الأولى التي ذكرناها تحمل الرقم 2127، والثانية تحمل الرقم 2156، وتليها مباشرةً الخاطرة رقم 2161، حيث يقول عن البشر المستحمِرِين والمستحمَرِين: «الحسد مصيبةٌ تصيب الناس العاثرين. إنهم حسّاد لأنهم يشعرون بعدم السعادة، لكن الحسد لا يخفّف من مصائبهم، وإنما يزيدهم أواراً». فلذلك تجدهم متوترين دائماً، يغلون غيظاً، وهو ما سيتسبب لهم قريباً بالسكتة القلبية. وهم يقرقعون مثل العلب الحديدية الفارغة، يكرّرون كلامهم نفسه طوال سبع سنوات، فلا تجد فيه أي تغيير أو تبديل. نفس الكلمات، نفس العبارات، نفس الشتائم والأحقاد، ونفث نفس القيح والصديد، مثل عقرب الرمل أو الحية الرقطاء.
الأطفال شبّوا وكبروا، والشباب تخرّجوا ونضجوا، والعالم كله تطوّر، إلا هذه الحيّة مازالت تعيش أوهامها، غارقةً في عقدها النفسية، وأزماتها الشوفينية، فليس لها أفقٌ أو هدفٌ في الحياة إلا القضاء على بقية المخلوقات في الأرض! فهل من المعقول أن لا تجد موضوعاً آخر للكتابة خلال عشر سنوات، غير التحريض على الآخر وتبرير تجويعه وحرمانه من حقوقه، والرقص طرباً على منظر الدم، حتى وصل بها الطيش إلى المطالبة بهدم البيوت على الرؤوس!
فرويد حلّل النفسيات البشرية، وأسّس علم النفس الحديث، وابتدع مصطلحاته الرئيسية مثل عقدة «أوديب» و»ألكترا»، فماذا لو عاد إلى الحياة اليوم وعرضنا عليه هذا النموذج المريض، ليقدّم لنا تفسيراً نفسياً، أو يضع لنا مصطلحاً، هل سيختار مصطلحاً آخر غير «عقدة الحمير»؟
في الذكر الحكيم من آية النحل، ورد وصفٌ جميلٌ: «والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً»... وهو من أدق ما ينطبق على هذه الفصيلة من المرضى الفاشستيين.