قراءة عابرة في حصاد جولة ترامب في أوروبا والمنطقة
يمكننا القول إن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقتي الشرق الأوسط وأوروبا، التي انتهت قبيل أيام، هي من أكثر زيارات الرؤساء الأميركيين إثارةً للجدل السياسي بين المحللين والكتّاب السياسيين على مدى أربعة عقود ونيف؛ بل هي الأكثر إثارةً فيما يتعلق بمنطقتنا تحديداً منذ الزيارة التاريخية المثيرة التي قام بها سلفه الأسبق ريتشارد نيكسون العام 1974 لمصر السادات، وهو يصارع من أجل البقاء في السلطة حينذاك إثر تفجّر فضيحة «ووترغيت» التي أخرجته من البيت الأبيض.
وربما يكون ترامب هو أول رئيس أميركي بدا وكأنه قد حقق ما كان يطمح في الشعارات والوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية بسرعة قياسية لا تتجاوز أربعة أشهر من استلامه الرئاسة في أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي. والحديث هنا يدور تحديداً فيما يتعلق باسترداد الأموال التي زعم أن بلاده أنفقتها على بعض دول الشرق الأوسط لحمايتها أمنياً لسنوات طويلة من دون مقابل، دع عنك ما حقّقه في الجولة من مكاسب سياسية. وهنا فقد تجلت قدراته وخبراته «البزنسية» كمقاول اقتصادي وسياسي بارع في آن واحد، والتي تعكس بالضبط العقلية التي ينظر من خلالها إلى كيفية إدارة حكم بلاده في الداخل والخارج وتحقيق مصالحها البحتة.
وهو بهذه العقلية نفسها كرّر نفس تصريحاته التي سبق أن أطلقها خلال حملته الانتخابية تجاه حليفات بلاده في «الناتو» أثناء قمة دول الحلف في بروكسل خلال جولته الأوروبية، باعتبارها ما معناه «عالة مالية» على الولايات المتحدة في نفقات «الناتو». ووجّه انتقادات لاذعة للدول المتخلفة عن سداد اشتراكاتها في الحلف، ولم يتورّع عن المنّ على جميع أعضاء الحلف بأن بلاده صاحبة النسبة الكبرى في موازنة الحلف وتسلحه.
وفور انتهاء جولته للمنطقتين الأوروبية والشرق أوسطية، بدا ترامب سعيداً بما ظفر به من مغانم مالية في المنطقة الثانية على وجه الخصوص، وكأنها الهدف الأول المركزي لجولته أكثر من أية مغانم ومكاسب سياسية أخرى، وهذا ما عبّرت عنه بالضبط تغريدته مُبشّراً شعبه فور عودته لبلاده: «عدتُ من الشرق الأوسط حاملاً معي إليكم منها مئات المليارات من الدولارات... ما يعني وظائف، وظائف»، علماً بأن الرقم الرسمي المُعلن 350 مليار دولار، بينما قدّره كثير من المراقبين والمتابعين لجولته في الشرق الأوسط بأكثر من ذلك، في صورة عقود وصفقات استثمارية وعسكرية أخرى، علاوةً على هدايا شخصية عينية ثمينة للغاية. وأياً كان المجموع الكُلي لما قصده ترامب من مليارات الدولارات التي بشّر بها شعبه في تغريدته، فإنها بلا ريب هي الأعلى التي يجنيها رئيس أميركي خلال سبعة عقود من بسط الولايات المتحدة نفوذها في المنطقة والعالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى درجة أذهلت كل المراقبين والمحللين.
أما الخاسر الأكبر من حصاد جولته ليس شعوب منطقة الشرق الأوسط فحسب؛ بل وبالدرجة الأولى القضية الفلسطينية حيث بدا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مُتلهفاً لمقابلة ترامب كرئيس لأقوى دولة عظمى من دون مقابل يُذكر، لا من حيث أي دعم مالي تلقاه، وهذا من رابع المستحيلات تُقدم عليه إدارة أميركية، ولا من حيث المكاسب السياسية، اللهم غير وعده بإطلاق «مبادرة سلام» جديدة فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع، مثلها مثل كثرة من المبادرات الشبيهة التي أطلقها أسلافه الرؤساء السابقون، ومن دون أي شرط مُسبق لوقف «إسرائيل» الاستيطان في الضفة الغربية والمُدان من الشرعية الدولية.
والأسوأ من ذلك أن عباس جاء استقباله لترامب في وقت بلغت فيه معركة البطون الخاوية التي يخوضها أسرى الشعب الفلسطيني في السجون الصهيونية ذروتها، دون أن يتمكن من فرضها على أجندة لقائه القصير مع ترامب في بيت لحم، ودون أن يتمكن قبل ذلك عربياً ودولياً من ممارسة أي دور فعّال طوال هذه المعركة المؤلمة القاسية اللاإنسانية التي خاضها المعتقلون من أبناء شعبه طوال 41 يوماً للضغط على «إسرائيل» للإستجابة لمطالبهم المشروعة بشأن ظروف سجونهم.
وإذا كان ثمة فضل لتكلل الإضراب برضوخ العدو لعدد منها، فهو يعود بالدرجة الأولى لصمود المضربين الأسطوري طوال تلك المدة الطويلة، وتضامن عائلاتهم معهم المتمثل في تحركاتهم وضغوطهم المختلفة، علاوةً على دعم وضغوط الفصائل الوطنية والرموز الوطنية الشريفة داخل «فتح»، فضلاً عن تضامن القوى الوطنية العربية وسائر قوى وشرفاء العالم المناصرة للقضية الفلسطينية.
ومن المؤلم والمخزي للفلسطينيين والعرب والمسلمين أن تتخلل برنامج ترامب في «إسرائيل» زيارة استفزازية لمشاعرهم، قام بها لحائط البراق معتمراً القلنسوة اليهودية والذي تسميه «إسرائيل»، «حائط المبكى»، في الشطر الشرقي لمدينة القدس الذي احتلته العام 1967، وهو الحائط الذي يُعد جزءاً من الحائط الغربي للحرم القُدسي بالمسجد الأقصى.
ولعل المحطة الوحيدة من محطات جولته الشرق الأوسطية والأوروبية التي واجه فيها ترامب شيئاً من الندية والانتقاد المبطّن لسياساته هي «الفاتيكان»، لدى لقائه البابا فرنسيس حيث ارتسمت - حسب تعبير وكالة رويترز - ابتسامة خافتة على وجه البابا لدى استقباله إياه في مكتبه، ولم يظهر الألفة التي يقابل بها عادةً رؤساء العالم، وبدت على سرائر وجه ترامب الضيق، وإن ختم اللقاء بإشادات من قِبلهما عن نتائج اللقاء، وبمداعبات متبادلة بين البابا وزوجته ميلانيا. وكان إهداء البابا إلى ترامب نسخة من رسالته ليوم السلام العالمي المعنونة «اللاعنف - اسلوب سياسة من أجل السلام»، ونسخة أخرى من رسالته البابوية في العام 2015 عن «أهمية حماية البيئة»، دلالاتها المبطنة غير الخافية على أي لبيب، وذلك لما هو معروف عن ترامب من موقف ضد تحميل الاقتصاد الرأسمالي لبلاده أي جزء من المسئولية في تلوث البيئة عالمياً، ولما لديه أيضاً من توجّه نحو تخفيض مخصصات وكالة حماية البيئة ببلاده.
ومن المفارقات الساخرة أن تكون هدية ترامب للبابا عبارة عن مجموعة خمسة كتب من تأليف زعيم الحقوق المدنية الأميركي الأسود مارتن لوثر كنغ، والتي هو أبعد عن مُثلها ومبادئها بُعد السماء عن الأرض!