ضرورة التلاحم والتراص وأخذ العبرة
العراق العظيم كان موطئ الحضارات، العراق العظيم كان سمته العلم والرقي، العراق العظيم حاول المغول طمس ما وصل إليه من تطوّر وتنمية، فرموا الكتب الموجودة في مكتبة المأمون في نهر دجلة والفرات حتّى قيل إنّ النهر ازرَقَّ ماؤه من حبر الكتب المرمية، ولو تحدّث هذا النهر لنطق بالكثير.
والعصر الحديث لم يكن أفضل من العصر القديم، فلقد تكالبت عليه كثير من القوى المجرمة والغاشمة لاغتيال وتصفية النخبة من العلماء... تصوّروا أكثر من 500 عالم تمّت تصفيته في مختلف العلوم آنذاك.
وقد التقيت بكثير من العلماء، سواء داخل البحرين أو خارجها، وتحدّثوا عن معاناتهم من دون قصد، عندما سألتهم عن الأوراق المنشورة والكتب التي لديهم وسنوات التدريس في الجامعات، فقالوا لي: «لقد ذهبت أدراج الرياح»، فبعض الكتب بقيت معنا وبعض الكتب ضاعت، ناهيك عن الأوراق والمحاضرات ورسائل الدكتوراه والماجستير التي أشرفنا عليها.
هل تشعرون بما يشعر به هؤلاء العلماء من غصّة؟ شقاء العمر، الحلم، التقاعد، الأمن، الأمان، الحياة ذهبت عندما تمّ تدمير العراق، فلا تقاعد ولا حقوق وحروب طاحنة مازالت مستعرة، حتّى أصبحنا نشهد صوراً لأطفال العراق يأكلون من القمامة، العراق الذي كان في يوم من الأيام يساوي الذّهب اليوم أبناؤه في هذه الحال، أمر مبكٍ وحزين ومشاهد تُقطّع القلب، فالعراق الذي نعرفه بأنّه ولاّد للعلماء اليوم هو مريض حزين «ميهود».
قوائم العلماء المغتالين بين طبيب ومهندس وأديب ومفكّر ومدرّس كبيرة جدّاً، ولا ننسى الاغتيالات التي حدثت في جامعة بغداد والمستنصرية وغيرهما من الجامعات العظيمة، وأيضاً نتذكّر ذلك اليوم الذي اغتيل فيه رئيس جامعة بغداد محمد الراوي الطبيب في عيادته الخاصة، وتم قتله أمام المرضى.
لا نريد أن نفتح الألم الذي لم يبرَ أبداً، ولكن نحاول أن نتفكّر في هذه الدنيا الصغيرة الوضيعة التي نجري وراءها ونعتب على بعضنا البعض ونحارب إخوتنا، ونحن لا نعلم ما ستحمله الأيام لنا.
أوتعلمون يا إخوتي، هرب كثير من العلماء وتركوا العراق إلى أماكن أخرى، ولكن معاناة الغربة والوظائف وسوء الحال وخاصة الأساتذة الذين تجاوزوا فترة التوظيف ما بعدها معاناة، وبعد المركز المرموق أصبحت أسماؤهم غير معروفة، وبعد التواجد في بطن الوطن بعدوا عن الوطن، ناهيك عن الأهل والبيت، فلقد تفرّق الأحبة، ابن في بريطانيا وأخ في أميركا وأم في أستراليا والله المستعان.
يكفينا فقط أن نعلم بأنّه في الغربة ليس هناك أي نوع من الضمان المستقبلي، فالشيء المقلق والهاجس الذي لابد منه هو كيف يمكنهم الاستقرار، ويا ليت باليد حيلة، أو تمّ تجنيسهم على الأقل في وطننا البحرين، فالعالم عن 10000 جاهل، هو يرفع من قدر المكان ويزيد من خيره.
حياة مؤلمة لا تتحمّلها القلوب، وحياة مؤلمة لا نريدها في مجتمعنا، فالحكمة ضالّة المؤمن، والوحدة والترابط لها أبعاد قويّة، والنّظر إلى المستقبل هو ما سيبقى وما سينمّي أوطاننا، فلا تبخلوا على الوطن المصالحة والوحدة والحوار والتوافق الوطني.
إنّ سرد معاناة علماء العراق العظيم هي عبرةٌ لنا جميعاً، لنتجنّب التناحر وويلات الحروب، سواء من الخارج والداخل، لأنّ نتائجها وخيمة، فما أحلى التلاحم والتراص في الوطن الواحد الذي نحمله في عيوننا أينما ذهبنا.