لماذا استهداف «الأقليات» الكبرى؟
لم يكن مفاجئاً ولا جديداً الخبر المؤلم الذي تصدّر نشرات الأخبار ظهر الجمعة، باستهداف حافلة تقل مجموعة من الحجاج الأقباط بمدينة المنيا المصرية، وأدى إلى مقتل 28 وجرح 20 آخرين، أكثرهم من الأطفال.
لم يكن جديداً لأنه جاء في أعقاب عدة تفجيرات شهدتها مصر الشقيقة في الشهور الماضية، آخرها العمليتان الإرهابيتان قبل شهرين، ضد كنيستين مصريتين، وأوقعتا عشرات القتلى والجرحى، وتبنّاهما تنظيم «داعش»، كما حدث في التفجير الأخير.
ولم يكن هذا التفجير مفاجِئاً لأحد، فهذا التنظيم الإرهابي يبحث عن متنفس للقيام بأعمالٍ ثأريةٍ تعوّضه المواقع التي يفقدها تباعاً في الشام والعراق، ولإثبات وجوده. وهو تنظيمٌ اعتمد على إشاعة الرعب لشلّ ضحاياه، بحيث يدين له السكان في المناطق التي استولى عليها. وكلما خسر مواقع، بحث عن مواقع تعويضية أخرى، مصطنعاً الأساليب الدموية نفسها.
الضربة الأخيرة كان ضحاياها هؤلاء العزل الأبرياء، حيث يبحث عن مناطق رخوة، وليس هناك أسهل من دور العبادة الآمنة. وليس هناك أية بطولة في استهداف أبرياء، وإزهاق أرواح أطفال ونساء. كل ما تحتاجه هو أيديولوجية تكفيرية منغلقة، تقوم على الغرور وادعاء تمثيل «الفرقة الناجية» حصرياً. ويستتبع ذلك نفي وجود الآخر، ما يفتح المجال لاستباحة دمه وماله وعرضه، وهو ما شاهدنا أبشع مظاهره في الشام والعراق، باسترقاق البشر واستعباد النساء وإعادة أسواق النخاسة بعدما اختفت من العالم نهائياً في الخمسينات.
قد يكون المنفذّون مصريين وقد يكونون أجانب، وفي الحالتين يبقى السؤال: من هم الأقباط؟
الأقباط هم سكّان مصر الأصليون، وظلوا أكثريةً حتى بعد دخول المسلمين مصر في العقد الهجري الثاني، ومع الوقت طغى العنصر العربي، بعد زيادة هجرة القبائل في المراحل اللاحقة. وكلنا يعرف من قراءة «السيرة النبوية» كيف أوصى الرسول الأكرم محمد (ص) المسلمين بالمصريين خيراً، كما نعرف كيف استجاب حاكم مصر (المقوقس) للرسالة التي تلقاها من المدينة المنورة. ففي الوقت الذي مزّق بعض الحكام العرب والأجانب رسائل النبي، وبينما استجاب حاكم البحرين بقبول الدعوة والدخول طوعاً في الإسلام، اختار المقوقس موقفاً وسطاً، فتبادل مع النبي المراسلات، وبعث له بعض الهدايا على عادة ملوك ذلك الزمان، من دون أن يتحوّل عن دينه إلى الإسلام. وخلال القرون التالية تناوبت دول «السلالات» الإسلامية على حكم مصر، وظلّ الأقباط ضمن الدولة، حتّى مرحلة الاستعمار البريطاني الذي لعب بهذه النار، لتمزيق المصريين بسياسة «فرّق تسد» التي استخدمها في أماكن أخرى كالهند والخليج.
في العقود الأخيرة، ومع صعود حركات «الإسلام السياسي» العنفية، كان الأقباط يتعرّضون لعمليات قتل وسرقة محلاتهم، وتفجير كنائسهم. وهو مسارٌ إجرامي وقعت فيه هذه الحركات، لشبهات فكرية حيناً، وانحرافات عقائدية حيناً، ولأسباب سياسية وثأرية أحياناً أخرى. بل إن بعضها كان يشرعن الهجوم على محلات الذهب وقتل أصحابها وسلب أموالهم لاستخدامها في تمويل «الجهاد»!
من حيث المبدأ، هؤلاء «بشرٌ»، لدمائهم حرمةٌ يجب أن تُصان، ولا يحق لأحد سفك دم إنسانٍ آخر كائناً من كان، من دون وجه حق. وهؤلاء ثانياً، «مواطنون كاملو الأهلية»، لهم حقوق وعليهم واجبات، ويجب ألا يُعامَلوا كأغرابٍ في موطنهم، أو مواطنين من الدرجة الثانية أو العاشرة، فهذه السياسة تنتهي إلى تمزيق المجتمعات وتفكيك البلدان. وثالثاً: هؤلاء هم «سكّان أصليون»، يجب ألا يُعامَلوا بمنطق الغلبة والقهر والإخضاع، وخصوصاً أنهم ليسوا مكوّناً صغيراً، وإنما يمثلون «أقلية كبيرة»، ونسبةً كبيرةً من السكان.
عقلية الإخضاع والقهر التي تتحكّم في الحركات الإسلامية التكفيرية المتطرفة، التي تدعي احتكار الإسلام وترى بقية البشر كفاراً، هي التي تقف وراء هذه التفجيرات الإجرامية وعمليات قتل الأبرياء ونشر الدمار.