العدد 5376 بتاريخ 26-05-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةالأعمدة
شارك:


المجتمع الدولي بين «الإرهاب» وحقوق الإنسان

لربما لم يتعرض مصطلح من المصطلحات السياسية المعاصرة للغموض والالتباس والجدل حول مفهومه وتكييف وضبط شواهده كما تعرض مصطلح «الإرهاب»، سواء أكان ذلك على الصعيد الدولي أم على الصعيد المحلي للدول، وبخاصة تلك التي تشهد أوضاعها الداخلية قلاقل واضطرابات، ولعل منطقتنا العربية خير نموذج لتلك الجدالات وتعدد الرؤى حول التباس المصطلح.

وفي فترة من الفترات التاريخية كان الصراع السياسي والفكري على أشده حول مفهوم الإرهاب، حينما تعلق الأمر بأنشطة ونضالات حركة التحرر الوطني العربية من الاحتلال والاستعمار الغربيين، إذ لم تتردد كثرة من وسائل الإعلام في الدول الغربية عن وصم تلك الأنشطة النضالية بـ«الإرهاب»، ثم بات هذا المصطلح منذ تصاعد أعمال المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد هزيمة 1967 يوصم بعملياتها العسكرية بحق جنود الاحتلال ومؤسساته العسكرية داخل الاراضي المحتلة، وبالتالي لم يقتصر على اختطاف الطائرات الاسرائيلية المدنية الذي اعتمدته بعض فصائل المقاومة في أواخر الستينات ومطلع السبعينات فقط، وسايرت الامبراطورية الإعلامية الاميركية ومن خلفها الإعلام الغربي اسرائيل والدوائر الصهيونية في هذا الخلط المدسوس والمقصود والمخالف لمنطق الشرعية الدولية في حق الشعوب المشروع في النضال بشتى الوسائل من اجل تحرر أوطانها وتقرير مصيرها ونيل استقلالها الوطني وهذا القرار مثبت ضمن قرارات الجمعية العامة الامم المتحدة مطلع الستينات.

وكان من أفضل مآخذ عربية ودولية صديقة أو محايدة في مواجهة ذلك الدس لتشويه أنشطة ونضالات الشعب الفلسطيني، ان الاسرائليين وحماتهم الدوليين يتعمدون اغفال ظاهرة «ارهاب الدولة الرسمي» الأشد خطورة، حينما يتعلق استخدامه بحق شعب أعزل كالشعب الفلسطيني والذي تتبناه وتمارسه الدولة العبرية نفسها، ولاسيما داخل إسرائيل وداخل الاراضي العربية الاراضي المحتلة.

ودون اغراق القارئ في هذه العجالة بتفاصيل ما جاءت به المعاجم اللغوية العريية عن المصطلح، نكتفي هنا بواحد من تعاريف الارهاب المتعلقة ببعض أنماط الدولة الحديثة والتي وردت في معجم المعاني الجامع الالكتروني والذي جاء فيه «الحكم الإرهابي: نوع من الحكم الاستبدادي يقوم على سياسة حكم الشعب بالشدة والعنف بغية القضاء على النزعات والحركات التحررية أو الاستقلالية».

ومن بين المعاجم السياسية التي تحت أيدينا نكتفي هنا أيضاً بتعريف سياسي للمصطلح ذاته ورد في معجم المصطلحات السياسية الصادر عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهي أول كلية اقتصاد وعلوم سياسية في العالم العربي يتشرف كاتب هذه السطور بتخرجه فيها، «إرهاب دولي Internationai Terrorism: هو اصطلاح ذاع صيته في السنوات الأخيرة، ويقصد به أشكال العنف المختلفة التي يلجأ إليها بعض الأفراد أو الجماعات أو الدول من أجل تحقيق أهداف معينة، ...» ثم يعدد تعريف هذه الاهداف ويسوق أمثلة من الأعمال الارهابية. وبهذا كما نرى فإن الارهاب ليس مقتصراً على الجماعات الارهابية والحركات المتطرفة بل وكما تتفق معظم المعاجم والقواميس اللغوية العلمية الموضوعية الرصينة، تمارسه الدول أو الانظمة السياسية الحديثة القائمة على نهج الاستبداد والدكتاتورية، وإن أنشأت مؤسسات ديكورية للدلالة على ديمقراطيتها وحكمها الدستوري.

اليوم كما نعلم لم تعد ظاهرة «الارهاب» تقتصرعلى اسرائيل، بل تمارسه دول عربية شرق أوسطية عدة على نطاق واسع دموي يزداد عنفاً وضراوةً ليفتك بأرواح العديد من أبناء شعوبها؛ لمجرد انخراطهم في احتجاجات او اعتصامات سلمية، لا يبرر استباحة دماء وأرواح المشاركين فيها العُزل، ان تلك الاحتجاجات والاعتصامات خارجة عن القانون لكون هذا النمط من العقاب والردع هو نفسه خارج عن القانونين الوطني والدولي تبعاً للتعريف الذي أوردناه آنفاً. ومع ان دول الاتحاد الاوروبي، وبخاصة على مستوى مؤسسته البرلمانية ومؤسسات مجتمعاته المدنية وأحزابه السياسية، أضحت تتوخى الدقة من تعميم المصطلح في مطلق الاحوال، لاسيما عندما يُراد منه وصم أنشطة المعارضة السلمية وحرية الرأي به، كما يحلو للانظمة الدكتاتورية، رغم انها أنشطة مكفولة في شتى التشريعات والمواثيق الدولية، إلا ان الملاحظ ان الولايات المتحدة وبريطانيا هما أكثر الدول الغربية انسياقاً مع هذا الوصم، تبعاً لمقتضيات مصالحهما الانانية الانتهازية الضيقة مع تلك الدول، حتى ليكاد يغيب من مواقفها الرسمية تعبير «ارهاب الدولة الرسمي» لوصم ممارسات دولها الحليفة الداخلية تجاه شعوبها، ليقتصر على دمغ أنشطة قوى ورموز المعارضة في أعمال العنف المتبادلة، بغض النظر عن عدم تكافؤ ممارسته من حيث الخطورة بين الجانبين، بل ولوصم أي صوت صريح مستقل ليُتهم صاحبه بارتباطه بالخارج؛ لمجرد نقده سياسات حكومة بلاده الداخلية، ويطرح حلولاً تُجنّب حمامات الدماء، مُطالباً بتجريب حلول غير الحل الأمني أو القبضة البوليسية المشددة وليس سواها، والتي يُراد التطبيل لها من الكُل دون استثناء، أو اللوذ بالصمت المطلق أياً تكن القوة المفرطة التي تمارسها الدولة العربية، ومهما تسببت في زهق من أرواح بريئة لأفراد مدنيين عُزل يُرمون بالعمالة او الخيانة أو بالارتباط بالخارج. حتى غدا إرهاب تنظيمات مثل داعش والقاعدة والنصرة والاجنحة المتطرفة ذات المنحى الارهابي داخل جماعات الاخوان المسلمين العربية، فضلاً عن ارهاب الدولة الرسمي، جميعها تتساوى مع انشطة قوى ورموز المعارضة السلمية التي لا حول لها ولا قوة، ولا تملك الا لسانها في رفض العنف، وتتبنى النهج السلمي المشروع للتغيير وإصلاح الانظمة لا إسقاطها.

ومع ان المجتمع الدولي أخذ يولي اهتماماً بظاهرة الارهاب بعد الحرب العالمية الثانية (وضعت أوزارها 1945) وبخاصة منذ مطلع الستينات حيث وُقعت اتفاقية طوكيو 1963 لتجريم الاعمال الارهابية في الطائرات، ثم تبعتها اتفاقية مونتريال 1971 واتفاقية نيويورك الاكثر شموليةً 1979 وغيرها من الاتفاقيات والبروتوكولات اللاحقة الاخرى، حتى أضحى الارهاب يُمارس اليوم عالمياً على المستويات المحلية والاقليمية والدولية من قِبل جماعات وتنظيمات وحكومات على نحو خطير منفلت غير مسبوق في تاريخ العالم الحديث، وبات المجتمع الدولي عاجزاً عن ضبطه، إلا انه ليس سراً القول ان بعض الدول الديمقراطية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، باتت تلعب دوراً خطيراً في التستر على الأقل على الممارسات الارهابية للدول الحليفة لها في العالم ومنها دول شرق أوسطية، بل والأنكى من ذلك انها لا تجد أي غضاضة في ممارسة ازدواجية المعايير في هذا الشأن، ليس فقط في إعلاء نبرتها العالية ولهجتها المشددة في التنديد بارهاب الدول التي لا تروق لها سياساتها، مقابل محاباة الدول التي تروق لها، بل والازدواجية أيضاً بين تنديدها بانتهاكات تلك الدول ودول عديدة من العالم لحقوق الانسان الخاصة حيال مواطنيها والمثبتة في تشريعاتها، على عيوبها وثغراتها، كما يتضمنها التقرير السنوي لوزارة خارجيتها الذي يكاد يتطابق مع ما هو مثبت في تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وبين تبني وزارة الخارجية نفسها تساوقاً مع الإدارة الاميركية مواقف ممالئة للانظمة التي تُمارس «ارهاب الدولة» الرسمي طبقاً لتعريفاته المشار اليها تجاه قوى المعارضة او أي حركات احجاجات او أي اصوات تعبير حرة، في الوقت الذي تُعد هذه الحقوق مكفولة لمواطنيها داخل أميركا ولا تجرؤ دمغ من يتمتع بممارساتها داخلياً بالارهاب!



أضف تعليق