الحريات العامة والاعتراف بالآخر
في الوقت الذي وصلت بعض المناطق في العالم مرحلةً متقدمةً من النضج الحضاري والتطبيع الثقافي، عبر الاعتراف التام بالآخر، تتراجع مناطق أخرى نحو مزيدٍ من الانغلاق والعزلة والتمييز وإقصاء الآخر.
ليست العبرة بالتصريحات والبيانات الصحافية، أو عقد المؤتمرات التي تجمع عدداً من المفكرين أو علماء الدين لمناقشة وثيقة مكة أو المدينة، بل هي بالعودة إلى جذور الحضارة الإسلامية والالتزام بروحها وجوهرها، القائمة على قيم الأخوة والتسامح والمساواة، قبل أكثر من عشرة قرونٍ من تبنّي الثورة الفرنسية لهذه القيم الخالدة.
ما جدوى أن نعقد مؤتمراً ندعو له شخصيات من الداخل والخارج، يطرحون ما نريد نحن أن يطرحوه، ويكرّرون ما نريد أن نكرّره، ويعيدون ما نريد أن يعيدوه، بينما لا نريد أن نسمع للآخر الذي يعيش معنا منذ قرون، ويتقاسم معنا لقمة العيش وحب الأرض ولغة الوطن ومعاناة الحاضر وأشواق المستقبل.
إننا نعيش في قلب منطقة الشرق الأوسط، التي بات الجميع يدرك أنها باتت موضوعةً على طاولة التقسيم والتجزئة، وكانت البداية في السودان، والدور قادم على ليبيا واليمن ومصر، وفي قلب ذلك كله سورية والعراق. وكل ذلك ليس بعيداً عنا، فنحن نعيش في أكثر مناطق العالم توتراً، فلا ننتهي من حربٍ إلا ونستعد إلى حربٍ أخرى، ولا تُحلّ أزمة إلا وتنفجر أخرى، ولا تُقبر فتنة حتى تنشب فتنة أخرى، ليستمر استنزاف ثرواتها وإنهاك شعوبها. كل الدول والمناطق في العالم استوعبت الدرس، وأدركت خطورة الصراعات وعبثيتها، إلا نحن في هذه المنطقة، حيث مازلنا نطرب لصيحات التحريض ونهبّ سراعاً خفافاً للحروب.
الشعوب الأخرى، في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، كلها تفرّغت للتنمية والبناء والصناعة، واعتمدت على ذاتها وأبنائها، أما نحن فمازلنا عاجزين عن صناعة حتى قلم الرصاص، أو حبة الدواء. ونعامل بعضنا كأعداء، ونميّز بين أبناء الوطن الواحد، ونكفّر أبناء الدين الواحد، ونحرّض على كل من لا يتفق معنا في رأي أو موقف سياسي. وحين خرجت الشعوب العربية في بداية الربيع العربي للمطالبة لاسترجاع حقوقها، واستعادة حرياتها الطبيعية التي تُمنح للبشر منذ يوم ولادتهم، تألّبت عليها القوى المسيطرة، وأغرقتها في مستنقع الألم والدماء.
إننا نرجع إلى الوراء حتى على مستوى الحريات العامة، فما كان ممكناً الحديث عنه قبل عشرة أعوام أصبح من الممنوعات، وما كان يتمتّع به الناس من حرية التظاهر أو ممارسة الشعائر بات محل تضييق، وما كان يُعترف به كخصوصيات دينية، للأقليات أو الأكثريات، بحكم الدستور والقانون في الكثير من بلداننا، بات محل تشديد.
ليس هناك بلدٌ في العالم يمكن أن ينهض من دون إطلاق الحريات العامة واحترام القانون وتطبيقه على الجميع بلا تمييز أو محاباة. ومعاملة الشعوب كقطعانٍ لم يعد الحل المناسب لهذه الأزمات الاقتصادية والسياسية والحقوقية المتلاحقة. فالشعوب تكبر وتنضج وتختلط بغيرها عبر حركة الدراسة أو السفر والسياحة أو عبر فضاء الإنترنت، فتعي حقوقها، وتطالب بتحسين أوضاعها لتعيش بكرامةٍ كبقية شعوب الأرض. وما كان محتملاً بالنسبة للأجداد قبل نصف قرن، لم يعد مناسباً للأحفاد الذين يتلقون معارفهم ومعلوماتهم وثقافتهم من هذا الفضاء العظيم.